لغات على حافة النسيان.. معركة المصريين الأخيرة لإنقاذ السيوية والقبطية والنوبية - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في قلب صحراء مصر الغربية، وعلى ضفاف النيل في أقصى الجنوب، وفي قاعات الكنائس القديمة، تدور اليوم معركة صامتة قد لا يشعر بها غالبية المصريين، لكنها حاسمة لمستقبل التنوع الثقافي في البلاد.

لغات وُلدت هنا منذ قرون، بعضها ارتبط بالهوية المصرية منذ أيام الفراعنة، تقف الآن على شفا الاندثار: الأمازيغية السيوية، واللغة النوبية، والقبطية. العولمة والتعليم الموحد والإعلام الجماهيري عوامل تفرض العربية كلغة واحدة مشتركة، بينما تقاوم هذه اللغات لمحاولة البقاء في دائرة الاستخدام اليومي.

المشهد لا يخص المصريين وحدهم، بل يعني العالم بأسره. فالسيوية إحدى فروع الأمازيغية التي تشترك فيها شعوب شمال أفريقيا، والنوبية امتداد ثقافي بين مصر والسودان، والقبطية آخر شكل حي من أشكال اللغة المصرية القديمة التي سمحت بفك رموز الحضارة الفرعونية.

وإذا خسر العالم هذه اللغات، التي تشهد تراجعا ملحوظا لعدد الناطقين بها بسبب قلة تداولها خاصة في أماكن انتشارها. يخسر معها مفاتيح قراءة التاريخ وفهم الإنسان المصري عبر العصور.

التعليم الموحد والإعلام المركزي يهمش اللهجات المحلية،
التعليم الموحد والإعلام المركزي يهمش اللهجات المحلية (الجزيرة)

السيوية مهددة بالانقراض

واحة سيوة تبعد نحو 560 كيلومترا عن القاهرة، ويعيش فيها قرابة 30 ألف شخص، غالبيتهم يتحدثون الأمازيغية السيوية التي انضمت إلي قائمة اللغات المهددة بالانقراض كما يقول محمد عمران جيري، باحث في التراث السيوي وعضو مجلس إدارة جمعية أبناء سيوة للتنمية السياحية.

ويوضح عمران في حديثة للجزيرة نت: "اليوم نتحدث العربية مع الغرباء ونحتفظ بالسيوية فيما بيننا، لكن مفردات الأجيال الجديدة أضعف بكثير من مفردات الأجداد بعد أن اقتصر استعمالها على اللغة الشفوية" محذرا من خطر ذوبانها التدريجي بعد انضمامها إلي قائمة اللغات المهددة بالانقراض .

ويضيف "اللغة السيوية كانت قوية ومنتشرة وحضارتها بارزة بين الحضارات القديمة، ووسيلة التعامل والتواصل الوحيدة داخل الواحة، حتى السبعينيات وأوائل الثمانينيات، لكن انتعاش النشاط السياحي، التعليم الرسمي، تسببا في زيادة نسب الهجرة والسياح وتدفق أعداد الوافدين من خارج سيوة ، فضلا عن انتشار الفضائيات والسوشيال ميديا، كلها عوامل فرضت اللغة العربية بقوة وتسببت في تغيير بعض العادات والتقاليد.

إعلان

ويؤكد، رغم أن اللغة السيوية غير مكتوبة فإن طبيعة واحة سيوة المنعزلة بصحراء مصر الغربية أسهمت في حفاظ سكانها إلى حد كبير على تقاليدها الخاصة وتاريخها العريق في محادثاتهم اليومية وإذا استمر هذا التراجع سنفقد خصوصيتنا التي هي مصدر قوتنا ودخلنا الاقتصادي ونصبح مجتمعا بلا تفرد.

ويشير إلي وجود أفكار يقدّمها مهتمون بالحفاظ على التراث لحمايتها من خلال تنظيم العديد من المبادرات الشعبية لكنها غير كافية: "منذ 2011 أطلقنا مبادرة لتوثيق التراث السيوي من حكايات وأمثال، وأصدرنا كتيبات محدودة، لكن المشروع توقف لعدة أسباب ومنها غياب التمويل وحافز الاستدامة".

في عمق الصحراء اصوات سيوة تحاول إنقاذ لغتها المهددة بالاندثار
في عمق الصحراء أصوات سيوة تحاول إنقاذ لغتها المهددة بالاندثار (الجزيرة)

النوبية.. إرث يختفي

أما في أقصى الجنوب، فلا تزال اللغة النوبية تتنفس عبر الأغاني والحكايات اليومية، لكنها لم تعد لغة مكتوبة، وهو ما يقلق أبناء المجتمع النوبي من اندثارها. طارق فتحي، مؤسس "جمعية نوب للتراث النوبي والتنمية بالإسكندرية"، يقدم صورة تفصيلية للمشهد قائلا "النوبية تعد من أقدم اللغات على الأرض وكانت تكتب قبل دخول الإسلام، واليوم تُستخدم كلغة منطوقة فقط.

ويشير فتحي في حديثة للجزيرة نت إلى "أن اللغة النوبية تعتبر من أقدم اللغات البشرية وقد تم توثيقها على المعابد المصرية القديمة، وفي حرب أكتوبر عام 1973 وضع الجيش المصري ناطقين بالنوبية في كل وحدة عسكرية لاستخدامها كلغة شفرة، لتأمين الاتصالات العسكرية وهو ما أربك الإسرائيليين تماما".

ويوضح فتحي أن المجتمع النوبي يتكون من 6 جماعات رئيسية نصفها في مصر والنصف الآخر في السودان، وهي الكنوز، والعرب، والفلاتشة، والدناقلة، والمحس، والسكوت، ويتحدثون لهجتين رئيسيتين، وأن الشباب في القرى النوبية يتقنون اللغة جيدا، لكن الشباب في المدن الكبرى غالبا لا يعرفونها، بينما كبار السن ما زالوا يحافظون عليها.

النوبيون يربطون بين لغتهم وتراثهم المادي.. لغة ومهن تصارع الانقراض
النوبيون يربطون بين لغتهم وتراثهم المادي، لغة ومهن تصارع الانقراض (الجزيرة)

ويضيف فتحي: توجد محاولات مستمرة لمواجهة اندثار اللغة النوبية من قبل الناطقين بها  ففي الإسكندرية وحدها لدينا أكثر من 40 جمعية نوبية، كثير منها ينظم دورات لتعليم مفرداتها، لكن الحضور يقتصر غالبا على المهتمين فقط.

ويلفت إلى أن مبادرات تعليم اللغة النوبية المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت في الحفاظ على صمود اللغة نسبيا رغم قلة الراغبين في تعلمها، الأمر الذي يتطلب إطارا منظما يضمن استمرارها، وحمايتها من الانقراض.

اللغات المصرية القديمة لها تقاليدها الخاصة وتاريخها العريق
اللغات المصرية القديمة لها تقاليدها الخاصة وتاريخها العريق (الجزيرة)

كفاح اللغة القبطية

ويتفق معه الدكتور محمد عبد الملك أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية على ضرورة الحفاظ علي  صمود هذه اللهجات القديمة والمتميزة أمام المتغيرات التي تتعرض لها ، ويصف سيوة بأنها "جزيرة لغوية" حافظت على لهجتها الأمازيغية قرونا معزولة عن التأثير العربي. لكنه يحذر من أن فقدان اللغة غالبا يبدأ في المدارس حين يشعر الأطفال أن لغتهم أقل قيمة من لغة التعليم الرسمي، فيتوقفون عن استخدامها خارج المنزل.

إعلان

ويرى عبد الملك "أن الخطر مضاعف في اللغة الشفهية غير المكتوبة أو الموثقة والتي تصبح أكثر عرضة للاندثار لأنها تعتمد على النقل السمعي، وإذا توقف جيل واحد عن استخدامها تنهار السلسلة، بسبب غياب التدوين وضعف الموارد التعليمية".

ويؤكد أستاذ اللغة أن الأمر يتطابق مع اللغة القبطية التي تواجه خطر البقاء لكونها محصورة في الطقس الديني داخل الكنائس: "الحل هو إنتاج محتوى رقمي ومعاجم مبسطة وألعاب وبرامج ترفيهية للأطفال تقدم هذه اللغات  بطريقة مبسطة حتى تخرج إلى الفضاء العام."

في المقابل يرى القمص تداوس أفامينا، الباحث في الآثار والتراث القبطي، أن اللغة القبطية تكافح في بقائها حية وللحفاظ على خصائصها الفريدة ورغم ذلك فهي في حالة استخدام دائم في الصلوات والألحان داخل الكنائس: "نقرأ المخطوطات الرئيسية بالقبطية، ونعلّمها لأولادنا في المعاهد الإكليريكية، وهناك قرية كاملة في دير البرشا بالمنيا يتحدث أهلها القبطية في حياتهم اليومية. نصلي بالعربية لأنها مفهومة للجميع لكننا ندخل أجزاء بالقبطية حتى لا تُنسى، وكل الألحان القبطية تُؤدى بها".

ويضيف في حديثة للجزيرة نت: أن الكنيسة تحيي اللغة بمسرحيات وحفلات وبرامج تعليمية على القنوات المسيحية، مشيرا إلى أن القبطية كانت المفتاح الرئيسي لفك رموز حجر رشيد، وأن هناك برديات محفوظة مكتوبة بالقبطية الصعيدية.

مفردات الأجيال الجديدة أضعف بكثير من مفردات الأجداد
مفردات الأجيال الجديدة أضعف بكثير من مفردات الأجداد (الجزيرة)

حماية اللهجات المحلية

ورغم كل هذه المبادرات الفردية، لا توجد حتى الآن إستراتيجية وطنية لحماية هذه اللغات وتفادي العزلة التدريجية التي تتعرض لها وهو ما يثير قلق الكثير من المخصصين.

الدكتورة مرفت محمد فشل، أستاذة اللسانيات بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية ترى التراث الثقافي للهجات في مصر يمثل أهمية كبيرة للحفاظ على الهوية الوطنية وجذب السياح والزوار، إذا تم الاعتناء بها والحفاظ عليها من الاندثار. وتؤكد على أن التعليم الموحد والإعلام المركزي يهمش اللهجات المحلية، ما يجعل عدد المتحدثين يتراجع بسرعة.

وتقول "عدد المتحدثين بالنوبية يقدر بنحو 100 ألف معظمهم من كبار السن، بينما لا يتجاوز عدد المتحدثين بالسيوية 20 ألفا، وإذا لم نتحرك اليوم، قد تصبح هذه اللغات موضوعا للدراسة الأكاديمية فقط بعد جيل واحد".

وتضيف للجزيرة نت، أن المشهد ليس قاتما بالكامل، فالأهالي ما زالوا ينشئون مجتمعات صغيرة مترابطة تحافظ على لهجاتها، ويتوارثونها في المناسبات الاجتماعية من أفراح وعزاء، بينما تظل الأغاني والموسيقى وسيلة جذب سياحي قوية يمكن البناء عليها، إلى جانب وضع لوحات ثنائية اللغة على المنتجات والمحال وتشجيع كتابة رسائل الماجستير والدكتوراه عن هذه اللهجات بدلا من الاقتصار على لغات أجنبية بعيدة عن البيئة المحلية.

منازل الطين تحكي الحكاية.. العمارة التقليدية تعكس هوية وثقافة الجنوب
منازل الطين والعمارة التقليدية تعكس هوية وثقافة الجنوب (الجزيرة)

ويقترح الباحث اللغوي الدكتور حازم الديب، خطة وطنية تشاركية لإنقاذ هذه اللغات تشمل توثيق اللهجات بالصوت والصورة، إدخال مواد تعليمية اختيارية في المدارس المحلية، وإطلاق تطبيقات ذكية لتعليمها، مؤكدا أن الوقت ما زال يسمح بالإنقاذ: "لدينا متحدثون أصليون وموروث شفهي يمكن تحويله إلى مواد تعليمية، لكن إذا انتظرنا عقدا آخر قد يصبح الأمر مجرد استرجاع تاريخي لا إنقاذ للغة حية بالفعل".

ويستطرد قائلا: المعركة اليوم ليست من أجل كلمات وجمل فقط، بل من أجل ذاكرة وهوية، فحين يغني النوبيون بلغتهم في أفراحهم، أو يتبادل السيويون أمثال أجدادهم، أو تصدح الكنائس بألحان قبطية، فإن مصر تستعيد جزءا من روحها المتنوعة، لكن هذه الروح مهددة بالتآكل ما لم يتحول الاهتمام الفردي إلى مشروع قومي يضع التنوع اللغوي ضمن أولويات الدولة. فإما أن تبقى هذه اللغات حية على ألسنة الناس، أو تتحول إلى حروف صامتة في كتب الباحثين.

إعلان

0 تعليق