الأخلاق في عصر التفاهة.. حين تصبح القيم محض شعارات - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

هل فقدت الأخلاق مكانتها في عالم تغزوه الشعارات الرنانة وسرعة الاستهلاك؟ وهل أصبحت القيم واجهات لتجميل السلطة والمصلحة فحسب، بدلا من أن تكون مبادئ رصينة للسلوك العام؟

وكيف يمكن للخطاب السياسي والاجتماعي أن يخرج إلى العلن بمبادئ نبيلة، في حين تصير ممارساته الفعلية على أرض الواقع انتهاكات أخلاقية؟ وهل من سبيل لإعادة الأهمية للقيم الحقّة، قيم الحق والخير والعدالة؟ أم أننا محاصرون في عصر تتحكم فيه الشعارات وترتفع على حساب المضمون؟

يقدم الفيلسوف الكندي آلان دونو قراءة نقدية عميقة لهذه المعضلات في حديثه عن أزمات عصرنا الذي سماه بعصر التفاهة، مستعرضا البون الشاسع فيه بين القول والفعل، وبين المبادئ المعلنة والممارسات الواقعية، في سياق عالمي يتسارع فيه استهلاك الشعارات، وتغيب عنه المراجعة الأخلاقية الحقيقية.

وقد صدر مؤخرا عن دار سؤال في بيروت ترجمة عربية لكتاب آلان دونو بعنوان "الأخلاق في عصر التفاهة" وقام بترجمته إلى العربية كل من الباحث اللبناني باسل الزين والمترجم المغربي المهدي مستقيم.

يقدّم الكتاب دراسة نقدية معمقة لموضوع الأخلاق في سياق الحداثة المعاصرة وعصر الاستهلاك السريع، ويدعونا آلان دونو فيه للتوقف أمام التناقض بين الشعارات الأخلاقية وما يحدث فعليا على الأرض، بطريقة تحثنا على مساءلة واقعنا، وفحص آليات السلطة، والتمييز بين القول والفعل.

غلاف كتاب نظام التفاهة
دونو كان قد أصدر كتاب نظام التفاهة في مرحلة سابقة (مواقع التواصل الاجتماعي)

نظام التفاهة

ابتكر دونو مصطلح "حكم التفاهة" أو "نظام التفاهة" (médiocratie) من مزج "التفاهة" (médiocre) و"الحكم" (cratie).

وهو لا يعني أن أشخاصا تافهين بالمعنى الأخلاقي يحكمون، بل أن منظومة كاملة من التفاهة قد فرضت معاييرها، منظومة تعلي من قيمة التفاهة، وتكافئ ما هو سطحي وتقصي ما هو عميق ثابت.

إعلان

وفي هذا النظام، يُعاد تعريف النجاح، إذ لم يعد النجاح كما كانت الناس تعهده وتألفه مرادفا للإبداع والتميز في بعض معانيه، بل أصبح مرادفا للامتثال والانضباط في إطار القوالب الإدارية والسوقية.

فالناجح هو من يحفظ لغة الإدارة، ويتقن الشعارات المتداولة، ويلتزم بما هو مقبول اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا حتى يصير جزءا مِطواعا من النظام الذي يكرس هذا النمط، في حين يستبعد هذا النظام سريعا كل من يقوم بالتفكير الناقد أو يتجرأ على طرح الأسئلة المختلفة الجدية.

ويتتبع دونو في كتابه آليات تكريس الرداءة في مجالات متعددة:

في التعليم: حيث تتحوّل المدارس والجامعات إلى مصانع لتخريج موظفين مدرَّبين على الطاعة لا مفكرين أحرارا. وفي السياسة: حيث يتوارى النقاش الفكري وراء إدارة تقنية محايدة، ويتحوّل السياسي إلى مدير بيروقراطي لا إلى قائد صاحب رؤية. وفي الإعلام: حيث يهيمن الاستعراض وتضيع الحقيقة في ضجيج الترفيه والمتعة والشهوات الصاخبة، وفي الاقتصاد: حيث يُرفع شعار الكفاءة والجدوى على حساب العدالة والإنصاف.

قراءة معاصرة للخطاب والقيم

في عالم يسيطر عليه الاستهلاك السريع للشعارات، وتغدو القيم أدوات للعرض أو التسويق بدل أن تكون معايير للسلوك، يطرح آلان دونو في كتابه "الأخلاق في عصر التفاهة" قراءة نقدية عميقة للخطاب السياسي والاجتماعي المعاصر، فالعالم الذي نعيشه اليوم يضج بالتصريحات الرنانة، ويتراجع تطبيقها.

يبدأ دونو تحليله من ملاحظة جوهرية، وهي أن كثيرا من الخطابات الحقوقية والسياسية، سواء في يسارها أو يمينها، تتحول من أطر أخلاقية إلى أدوات لتبرير الممارسات المتناقضة. فالأخلاق، التي يفترض أن تكون مبدأ لإرشاد الفعل، تُوظف أحيانا لتجميل السلطة أو لتغطية المصالح الاقتصادية والسياسية.

وهو ما يرصده الكتاب في حالات ملموسة، مثل الطرائق التي أديرت بها الصحة العامة خلال جائحة كوفيد-19، أو من خلال استغلال الشعارات الاقتصادية والاجتماعية في الشركات الكبرى دون تطبيق فعلي للمسؤولية.

يُظهر دونو أن الانزلاق الأخلاقي ليس ظاهرة فردية متنحية، بل هو جزء من أنماط متكررة شائعة تكشف هشاشة المؤسسات، وتوضح كيف يمكن للقيم أن تتحول من مبدأ حقيقي إلى واجهة فارغة، في حين يبقى المضمون الفعلي خاضعا للسلطة أو المصالح الخاصة.

يستعين دونو بالأمثلة الحية لتوضيح هذه الانزلاقات البنيوية. فمثلا، طرد أستاذة جامعية لمجرد الإشارة إلى كتاب يتناول العنصرية ليس مجرد حدث عابر، بل هو تجسيد لانزلاق النظام التعليمي عن قيمه الأساسية.

وكذلك يظهر تحوّل الممارسات الاقتصادية والتنموية، من شعارات المسؤولية الاجتماعية والتنمية المستدامة إلى أدوات لإخفاء الاستغلال والفجوات الاقتصادية، كيف يمكن للقيم الأخلاقية أن تُستعار أغطية لتبرير الممارسات غير الأخلاقية.

ويرى دونو أنه حتى التراث الشعبي لم يسلم من هذا الانحدار الأخلاقي، فالأصالة الثقافية باتت تُستغل اليوم لتكون واجهة للترويج التجاري أو السياسي، بعيدا عن الإشارة أو التركيز على البعد الأخلاقي والإنساني الذي كان أُس وجودها.

وفي الإعلام، تتكرر الظاهرة نفسها: حيث تتحول القيم إلى شعارات رنانة، تخفي وراءها أجندات خفية، فتظل الأخلاق صدى بلا مضمون حقيقي وراءه.

Alain Deneault, French writer, Mantova, Italy, 2018. (Photo by Leonardo Cendamo/Getty Images)
دونو بين أن الانزلاق الأخلاقي ليس ظاهرة فردية متنحية بل هو جزء من أنماط متكررة (غيتي)

تحليل الفلسفي للخطاب المعاصر

لا يقدم دونو الكتاب من خلال استقصاء أمثلة واقعية شارحة كثيرة فحسب، بل يقدمه بصورة أداة فلسفية تعين على تحليل الخطاب المعاصر، والخطاب -كما يراه دونو- يحمل آثارا مباشرة على الحياة اليومية، ويكشف عن التناقضات بين الأقوال والأفعال في المؤسسات.

إعلان

ويؤكد أن الهدف من هذا التحليل ليس التوفيق بين أطراف متعارضة، بل استكشاف الأنماط البنيوية التي تسمح لهذه الانزلاقات بالتكرار، وبيان النتائج العملية لما يُطرح باسم المبادئ.

من خلال هذا المنظور، يصبح الخطاب السياسي والاجتماعي أكثر وضوحا، وتظهر الفجوات بين ما يُعلَن وما يُمارس، بما يكشف الهيمنة الكامنة وراء الشعارات الأخلاقية، والطرق التي تتحول بها القيم إلى أدوات للسيطرة بدل أن تكون قواعد للسلوك.

ويستخدم دونو مزيجا من الكتابة الإبداعية والتحليل النقدي المعمّق، مستعينا بالبيانات الواقعية والمصادر المتعددة، مما يسمح بفحص دقيق ومعمّق للخطابات، ويبرز المسكوت عنه بين السطور دون إسقاط أفكار مسبقة. هذا المزيج يجعل القارئ قادرا على رؤية تسييل القيم وتحويل المبادئ الأخلاقية إلى شعارات فارغة، كما يمنحه أدوات نقدية لمساءلة الانزلاقات البنيوية في المؤسسات والمجتمع.

يضع دونو القارئ أمام تجليات عصر التفاهة، حيث تتراجع الأخلاق إلى الوراء، وتتقدم الشعارات، ويؤكد أن التحديات الأخلاقية باتت ظاهرة متغلغلة في بنية المجتمع المعاصر الذي تُستعار فيه القيم الأخلاقية لتغطية مصالح خاصة أو سلطوية.

ويمكن القول إن دعوة الكتاب التي يحاول المؤلف الوصول إليها هي إعادة الأخلاق قيمة حية وفعالة بين الناس وفي تعاملاتهم، بعيدا عن الشعارات البراقة الفارغة، وإلى ممارسة الوعي النقدي المستقل للتنبه إلى المزالق والانحيازات، واستعادة المعنى الحقيقي للقيم في حياتنا اليومية.

إن قراءة دونو تشكّل تجربة فلسفية وأخلاقية متكاملة، تتيح فهما عميقا لعصر تتسارع فيه الشعارات، ويغيب فيه المعنى أو يكاد.

0 تعليق