كتبت بديعة زيدان:
في أمسية امتزج فيها الحنين بالوجع والأسطورة بالواقع، اختتم الشاعر السوري نوري الجرّاح البرنامج الثقافي ليوم افتتاح معرض عمّان الدولي للكتاب في دورته الرابعة والعشرين، مساء أول من أمس، بأمسية شعرية وحوارية أدارتها الأكاديمية الأردنية د. إيمان عبد الهادي، بحضور نخبة من المثقفين والجمهور الأردني والعربي.
الأمسية التي احتضنتها قاعة الفعاليات في المركز الأردني للمعارض بـ"مكّة مول"، شهدت عودة الشاعر إلى عمّان بعد غياب دام ربع قرن، حاملاً معه قصائد جديدة وقديمة، وذاكرة مثقلة بالصور والأمكنة التي شكلت تجربته الشعرية الفريدة.
قدّم الجرّاح، في أمسيته، قراءات شعرية منتقاة من مجموعات ثلاث: "ألواح أورفيوس"، و"قارب إلى لسبوس"، و"لا حرب في طروادة"، أظهرت عمق تجربته، وقدرته على استدعاء الأسطورة لتعرية الجرح المعاصر.
في قصيدة لافتة، أعاد الشاعر إنتاج الحوار القرآني بين أبناء يعقوب وأبيهم، متسائلاً بمرارة على لسان الإخوة: "لماذا أحببته أكثر مما أحببتنا يا أبي؟... من أوحى لك بالقميص وبالذئب دمه في القميص؟"، بحيث عمل، من خلالها، على تفكيك آليات الغيرة والتفضيل التي تؤسس لمآسٍ كبرى.
انتقل بعدها إلى فضاء المنفى السوري، متناولاً مأساة البحر بقصائد رسمت صوراً حية لـ"السوريين الأشقاء الهاربين من الموت"، أولئك الذين "يولدون على الشواطئ مع الزبد"، في مشاهد تستدعي أساطير البحر المتوسط لكنها تروي فاجعة الحاضر.
وبرزت قدرته على خلق صور مركبة ومؤلمة حين وصف أجساد اللاجئين بأنها "تبرٌ هالك" و"تبرٌ مصهور"، معيداً تعريف قيمة الإنسان المهدورة في رحلات الموت.
ولم تغب "دمشق الشعرية" عن الأمسية، حيث استحضرها ككيان حيّ ومجروح، خاصة حين خاطبها قائلاً: "سأكتب إليك يا دمشق، المحبوسة وراء الشمس وفي يدك المغلولة كتاب ممزق؟"، حيث بدت دمشق ليست محض مدينة واقعية، إنّما فكرة ورمز للمعرفة والجرح في آنٍ معاً.
وبعد أن أخذ الحضور في رحلة شعرية عبر أساطير المنفى وجغرافيا الروح، جلس الشاعر السوري نوري الجرّاح في حوارية، ليكشف عن رؤيته للكتابة، وعلاقته المعقدة بدمشق، وتأملاته في ماهية الشعر الحديث، بحيث شكلت الحوارية، الجزء الثاني من أمسيته، قدم فيها فهماً أعمق للمحركات الداخلية التي تشكل عالمه الشعري.
كان السؤال الأول: "لماذا تكتب؟"، وجاء جواب الجرّاح بعيداً عن التنظير، وملامساً للبعد الوجودي للكتابة. بحيث أجاب: "أكتب لأنقذ نفسي من فخاخ العالم والوقت"، وهي عبارة مكثفة، لخص فيها الشاعر السوري دافعه الأساسي للكتابة، فهي ليست ترفاً فكرياً، إنّما ضرورة للبقاء، وفعل مقاومة ضد ما هو عابر ومؤقت.
وأضاف: إنه لا يرى نفسه في موقع "المُعلّم" الذي يقدم دروساً للقارئ، فالبطل الحقيقي في نصوصه "القصيدة نفسها"، وهنا وضع القصيدة ككيان مستقل له حياته الخاصة، وعلى القارئ أن يتفاعل معه ويجد طريقه الخاص إليه.
وعندما سُئل عن دمشق، المدينة الحاضرة بقوة في شعره، كشف الجرّاح عن علاقة مركبة تحولت بفعل الزمن والمنفى، بحيث لم تعد دمشق بالنسبة له مجرد مكان جغرافي، بل تحولت إلى فضاء شعري وذاكرة متخيلة.
وعبّر الجرّاح عن قلقه من العودة قائلاً: إنه يخشى "ألا يجد المدينة التي تركها"، فدمشق التي يعرفها ويعيشها الآن هي "دمشق الشعرية"، وهذا التحول من المكان الواقعي إلى المكان الشعري السمة الأبرز لتجربة المنفى، حيث يصبح الوطن فكرة تُعاد صياغتها في اللغة، وكياناً يُبنى في الذاكرة للحفاظ عليه من الفقدان والغياب.
تطرقت الحوارية أيضاً إلى الجانب الشكلي والتصنيفي للشعر، ليظهر الجرّاح تحفظاً على مصطلح "قصيدة النثر"، معتبراً أنه لم يعد دقيقاً بما يكفي لوصف التنوع الهائل في الكتابة الشعرية اليوم، واقترح بدلاً منه مصطلحات أوسع مثل "القصيدة الحرّة" أو "القصيدة الحديثة"، في إشارة إلى أن الشعر تجاوز القوالب المحددة، وأن المهم هو الجوهر الشعري وليس التصنيف النقدي.
في ختام الحوارية، تحدث الجرّاح عن مشروعه الرائد في إحياء "أدب الرحلة" من خلال مركز "ارتياد الآفاق" وجائزة ابن بطوطة. ورغم أن هذا المشروع قد يبدو منفصلاً عن شعره، إلا أنه أكد على الصلة الوثيقة بينهما، فالسفر أو الارتحال، سواء كان في الجغرافيا أو في الكتب، جزء لا يتجزأ من روح الشاعر التي تسعى دائماً إلى استكشاف العالم وتجاوز الحدود.
بكلماته الهادئة والعميقة، قدم نوري الجرّاح في هذه الحوارية مفاتيح أساسية لفهم عالمه، حيث الكتابة فعل خلاص، والمدينة ذكرى شعرية، والقصيدة كائن حر لا تقيده المصطلحات، في حين أكدت الأمسية أن الشعر الحقيقي لا يكمن فقط في النصوص المقروءة، إنّما في الرؤية العميقة التي تقف خلفها.
0 تعليق