مولودفا.. كيف تحولت الدولة الصغيرة إلى ساحة صراع أوروبا وروسيا؟ - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

قد يبدو غريبا أن دولة صغيرة مثل مولدوفا، الواقعة بين أوكرانيا ورومانيا، تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى محور مواجهة دبلوماسية وجيوسياسية ساخنة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا.

فرغم صغر مساحتها وضعف إمكانياتها مقارنة بجيرانها، أصبحت مولدوفا اليوم ساحة اختبار لموازين القوى في شرق أوروبا، حيث بات كل تصريح أو تحرك رسمي سواء من بروكسل أو موسكو ينعكس بشكل مباشر على مستقبل البلاد واستقرارها.

وتسعى مولدوفا، منذ سنوات، للتخلص من إرث النزاعات الإقليمية والتبعية الاقتصادية والطاقوية لجيرانها الكبار، في ظل أملها بالانخراط الكامل في المنظومة الأوروبية، غير أن هذا التوجه يضعها في مواجهة حتمية مع المصالح الروسية، خاصة مع تعقيدات الداخل المولدوفي ووجود إقليم ترانسنيستريا الانفصالي المدعوم من موسكو، فضلا عن تحديات السياسة والطاقة والأمن التي تُثقل كاهل الدولة الفتية.

" frameborder="0">

مولدوفا بين بروكسل وموسكو

بحسب تقرير نشرته صحيفة لوموند الفرنسية، فقد تبنت حكومة مايا ساندو نهجا واضحا يقوم على تعزيز الروابط مع بروكسل، معتبرة أن الانخراط في المشروع الأوروبي يمثل الضمان الأساسي للاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني للبلاد.

وقد تجسد هذا التوجه في تكثيف اللقاءات الثنائية متعددة الأطراف بين مولدوفا ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تحركات مستمرة في مجلس أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو).

فعلى الجانب الأوروبي، أبدت بروكسل استعدادها لتسريع المفاوضات المتعلقة بانضمام مولدوفا، وقدمت حزمة من المساعدات الاقتصادية والفنية لدعم البنية المؤسسية، شملت مجالات الطاقة والعدالة والإدارة العامة، كما كثفت حضورها في كيشيناو عبر زيارات وفود رفيعة المستوى من المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي، في إطار تعزيز الالتزام السياسي بدمج البلاد في الفضاء الأوروبي.

وفي المقابل، استخدمت روسيا أدوات دبلوماسية مضادة تمثلت في بيانات متكررة صادرة عن وزارة الخارجية الروسية، تحذر من "التبعات الإستراتيجية" لانضمام مولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي، معتبرة ذلك تهديدا للاستقرار الإقليمي وإقصاء لموسكو من فضاء نفوذها التقليدي.

إعلان

وركزت موسكو على إعادة إحياء خطاب الروابط التاريخية والثقافية مع مولدوفا، مع الإشارة إلى أهمية التعاون في مجالات الطاقة والتجارة، واستخدام ملف ترانسنيستريا كورقة ضغط على كيشيناو.

الاتحاد الأوروبي أطلق برامج تعاون أمني مع مولدوفا تركز على مكافحة الفساد وحماية الحدود (الفرنسية)

تداخلت الدبلوماسية المولدوفية أيضا مع الملفات الدولية، عبر الاجتماعات في الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، حيث ركزت روسيا على حقوق السكان الناطقين بالروسية، بينما أبدت بروكسل اهتماما بالجانب الديمقراطي والسيادي لخيارات كيشيناو، مما جعل الصراع على المستوى الدولي يعكس الانقسام الكبير بين القوى الغربية وروسيا.

كما سعت الحكومة المولدوفية أيضا إلى صياغة خط سياسي مستقل يعزز الهوية الأوروبية عبر الانخراط في مؤسسات القارة، مع تجنب المواجهة المباشرة مع روسيا، والحفاظ على قنوات تواصل مفتوحة في مجالات الطاقة والتجارة. ومع ذلك، ما زالت موسكو تعتبر هذا التوجه انحرافا إستراتيجيا عن المجال الأوراسي.

وينظر إلى الملفات الأمنية والطاقة كجزء أساسي من المعادلة الدبلوماسية، إذ أطلق الاتحاد الأوروبي برامج تعاون أمني مع مولدوفا تركز على مكافحة الفساد وحماية الحدود، بينما ربطت موسكو هذه الإجراءات بمحاولة جذب البلاد نحو الحلف الأطلسي.

كما استخدمت روسيا نفوذها كمصدر رئيسي للغاز والنفط لإرسال رسائل ضغط مباشرة، في حين سعى الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع رومانيا لتأمين بدائل للطاقة عبر مشاريع الربط الكهربائي وخطوط الغاز العابرة من أوروبا الوسطى، ما أتاح للحكومة المولدوفية هامشا أكبر للتحرك دبلوماسيا.

إلى جانب ذلك، شاركت عواصم أوروبية كبرى مثل باريس وبرلين في الملف، كل وفق إستراتيجيتها الخاصة، فقد ركزت فرنسا على دعم استقرار شرق أوروبا، وألمانيا على بناء شراكات اقتصادية لحماية مولدوفا من الضغوط الروسية، وهو ما انعكس داخليا في كيشيناو باعتباره ضمانة إضافية لمسارها الدبلوماسي.

وفي السياق، أشار تقرير لصحيفة واشنطن بوست إلى أن الفوز الانتخابي الأخير للحزب الموالي للاتحاد الأوروبي عزز من ثقة القيادة المولدوفية في المضي قدما نحو بروكسل، ومنحها قدرة أكبر على مخاطبة شركائها الأوروبيين، مع رسالة واضحة لموسكو بأن الرأي العام المولدوفي يتجه نحو الخيار الأوروبي.

" frameborder="0">

بين الانقسام الداخلي وضغوط الخارج

تتسم السياسة الداخلية في مولدوفا بانقسامات عميقة بين تيارين رئيسيين أحدهما يدعم تعزيز الروابط مع الاتحاد الأوروبي، ويركز على الإصلاحات المؤسساتية لضمان مستقبل الدولة، في حين يميل التيار الآخر للحفاظ على الروابط التاريخية مع روسيا، ويركز على التوازن الاجتماعي والثقافي واعتبارات الأمن الإقليمي.

هذه الانقسامات ليست جديدة، بل تعتبر امتداد لتاريخ طويل من التوترات بين شرق مولدوفا وغربها، وقد تعمقت في السنوات الأخيرة نتيجة النزاع في أوكرانيا والتحديات الاقتصادية، مما جعل الداخل المولدوفي بيئة حساسة للغاية تحدد قدرة كيشيناو على اتخاذ قرارات سيادية مستقرة.

في تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، أكدت فيه على أن مولدوفا تواجه عوائق كبيرة في مسارها نحو الاتحاد الأوروبي، مثل الضغوط الاقتصادية، والتدخلات الروسية، والحاجة إلى إصلاحات داخلية واسعة النطاق، وذلك رغم نجاح الحزب الموالي للاتحاد الأوروبي في الانتخابات الأخيرة.

إعلان

ويظهر التقرير أن الانقسام الداخلي لا يقتصر على السياسة الحزبية فحسب، بل يمتد إلى البنية الجغرافية والاجتماعية للدولة، حيث تتركز القاعدة المؤيدة لموسكو في المناطق الشرقية القريبة من ترانسنيستريا، بينما تميل المدن الكبرى مثل كيشيناو إلى دعم التوجه الأوروبي، مما يجعل تشكيل أغلبية برلمانية مستقرة تحديا كبيرا للحكومة.

ولا تقتصر التحديات على الانقسام الجغرافي فحسب، بل تشمل أيضا مقاومة المؤسسات الحكومية لبعض الإصلاحات، خصوصا في أجهزة الأمن والقضاء التي لا تزال تحتفظ بعلاقات تاريخية مع روسيا.

وهذا الواقع يجعل تنفيذ السياسات الجديدة المتعلقة بالاندماج الأوروبي أكثر صعوبة ويعقد قدرة الحكومة على فرض الإصلاحات بسرعة وفعالية، خصوصا عندما تواجه ضغطا شعبيا من مجموعات تعارض التغييرات أو تشكك في نية بروكسل.

Protesters wave Moldovan flags as they take part in a demonstration organised by the opposition Patriotic Bloc party outside the Moldovan Parliament in Chisinau, on September 29, 2025 after Moldova's ruling pro-EU party won parliamentary elections.
مظاهرة نظمها حزب الكتلة الوطنية المعارض بعد فوز الحزب الحاكم بالانتخابات البرلمانية التي طغت عليها اتهامات بالتدخل الروسي (الفرنسية)

كما تلعب العوامل الإعلامية دورا كبيرا في تعميق الانقسام الداخلي، فالإعلام منقسم بين خطاب مؤيد لأوروبا يركز على الإصلاح ومحاربة الفساد، وخطاب موالي لموسكو يحذر من المخاطر المحتملة للانخراط الأوروبي، وهو ما يخلق بيئة من الاستقطاب تجعل الرأي العام عرضة للتأثيرات الخارجية، ويزيد من حدة الانقسامات بين التيارات السياسية.

هذا الانقسام الإعلامي يمتد أيضا إلى منصات التواصل الاجتماعي حيث تُستغل الحسابات الإلكترونية الموالية لروسيا أحيانا لتضخيم الانقسامات السياسية والاجتماعية، بينما تحاول الحسابات الأوروبية تسليط الضوء على النجاحات الإصلاحية والحاجة للاندماج في الاتحاد الأوروبي.

أما الجانب الاجتماعي والثقافي فيزيد بدوره من تعقيد المشهد الداخلي، فوجود الروابط الدينية مع الكنائس الأرثوذكسية المرتبطة بموسكو يدعم التوجه التقليدي ويعارض بعض السياسات الأوروبية، مما يزيد صعوبة توحيد الهوية الوطنية وموازنة القيم بين الانتماءات المختلفة.

إضافة إلى ذلك، هناك تأثير كبير للعوامل الاقتصادية، حيث تعاني المناطق الشرقية من مستويات أعلى من البطالة وضعف الاستثمار مقارنة بالمناطق الغربية، مما يجعل سكانها أكثر تأثرا بالدعم الروسي التقليدي سواء في شكل مساعدات اقتصادية أو برامج اجتماعية، وبالتالي يزيد من التباين بين المناطق ويجعل الإصلاح السياسي أكثر تعقيدا.

وتظهر التحديات المؤسساتية أيضا في البرلمان والحكومة، حيث يواجه الحزب الحاكم الموالي للاتحاد الأوروبي صعوبة في تمرير قوانين الإصلاح، خصوصا تلك المتعلقة بمكافحة الفساد وتعزيز استقلال القضاء، بسبب المعارضة الشديدة من النواب الموالين لروسيا.

Moldova's Prime Minister Dorin Recean and Parliament Speaker Igor Grosu attend a rally of supporters of the pro-European Party of Action and Solidarity (PAS) ahead of the upcoming parliamentary elections in Chisinau, Moldova September 26, 2025. REUTERS/Vladislav Culiomza
رئيس وزراء مولدوفا دورين ريسيان (يسار) ورئيس البرلمان إيغور غروسو يحضران تجمعا لمؤيدي حزب العمل والتضامن المؤيد لأوروبا (رويترز)

هذه المعارضة تعرقل تنفيذ السياسات بسرعة وتؤدي أحيانا إلى تعطيل مشاريع إستراتيجية قد تؤثر بشكل مباشر على فرص انضمام الدولة إلى الاتحاد الأوروبي.

ويكمن التحدي الأكبر في قدرة الحكومة على الموازنة بين التوجهات الداخلية المختلفة وحماية مصالح الدولة من الضغوط الخارجية، سواء من بروكسل أو موسكو، إذ إن كل خطوة نحو الإصلاح أو الانفتاح الأوروبي يجب أن تراعي حساسية الانقسامات الداخلية والقدرة على تجنب تفاقم الاحتكاكات بين التيارات المختلفة، مع ضمان استقرار مؤسسات الدولة وقدرتها على الاستجابة للأزمات.

كما أن العلاقات الاقتصادية الخارجية تشكل عاملا إضافيا في التعقيد السياسي. فعلاقات مولدوفا التجارية مع روسيا تشمل موارد حيوية مثل الغاز والطاقة، وأي تغيير في السياسات الأوروبية قد يؤدي إلى ضغط اقتصادي من موسكو.

إعلان

بينما تتطلب الالتزامات الأوروبية إصلاحات اقتصادية صارمة قد تكون مؤلمة على الأمد القصير، مثل تعديل سياسات الدعم أو تحسين الشفافية في الميزانية، مما يجعل الصراع الداخلي على المصلحة الاقتصادية والسياسية مستمرا.

ويشير التقرير السابق إلى أن الحكومة المولدوفية تواجه تحديا كبيرا في إشراك المجتمع المدني في عملية الإصلاح، فالمجتمع منقسم بين مؤيد للتوجه الأوروبي ويطالب بمزيد من الشفافية والمساءلة، وبين مجموعات محافظة ترى أن الانحياز المبالغ فيه لأوروبا قد يهدد الاستقرار الاجتماعي والهوية الوطنية.

ويفرض هذا الانقسام على القيادة السياسية تبني إستراتيجيات تواصل دقيقة مع المجتمع لضمان الدعم الشعبي الكافي والابتعاد عن أي خطوة قد تعرقل مسار تنفيذ الإصلاحات.

التحولات الجيوسياسية

يشير تقرير نشرته صحيفة إلباييس الإسبانية بعنوان "مولدوفا، الحلقة الأضعف أمام روسيا، عند مفترق طرق بين بروكسل وموسكو" إلى أن موقعها الجغرافي والسياسي يجعلها ساحة مفتوحة للتجاذب بين مشروعين متعارضين:

مشروع التكامل الأوروبي الذي يَعِد بالإصلاح والديمقراطية. ومشروع النفوذ الروسي الذي يستند إلى التاريخ والجغرافيا والطاقة.

وأوضحت الصحيفة أن اللحظة السياسية الراهنة تمثل اختبارا صعبا لمولدوفا، إذ لا يقتصر الأمر على نتائج الانتخابات أو موازين القوى في البرلمان، بل يتجاوز ذلك إلى شبكة من الضغوط الخارجية التي تسعى كل جهة إلى فرضها على كيشيناو.

فروسيا تنظر إلى مولدوفا باعتبارها جزءا من محيطها الحيوي، وهي ترى أن أي اقتراب من الاتحاد الأوروبي يشكل تهديدا مباشرا لنفوذها في المنطقة. في المقابل، تعتبر بروكسل أن تعزيز المسار الإصلاحي في مولدوفا جزء من إستراتيجية أوسع لصد النفوذ الروسي على حدودها الشرقية.

ولم تكن رحلة مولدوفا بين هذين الخيارين مجرد عملية سياسية داخلية، بل اختبارا للقدرة على البقاء في قلب معادلة جيوسياسية مضطربة، فالاتحاد الأوروبي يشترط إصلاحات واسعة في مجالات مثل القضاء والشفافية الإدارية ومحاربة الفساد، وهي متطلبات تُحمّل الحكومة أعباء إضافية وتضعها في مواجهة مباشرة مع قوى داخلية مترددة أو رافضة للتغيير.

أما روسيا، فهي تمارس ضغوطا بوسائل مختلفة، تبدأ بالتأثير الإعلامي والديني والثقافي، وتمتد إلى أدوات اقتصادية مثل الغاز والتبادل التجاري، وصولا إلى النفوذ العسكري غير المباشر في إقليم ترانسنيستريا الانفصالي.

" frameborder="0">

وقد يجعل هذا التوازن الدقيق بين إرادة التوجه الأوروبي وضغوط موسكو من السياسة المولدوفية ساحة اختبار يومية، فالمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي تسير في اتجاه تعميق التعاون والاندماج التدريجي في السوق الأوروبية، بينما تسعى روسيا إلى استغلال كل ثغرة داخلية لتعزيز نفوذها، سواء عبر دعم الأحزاب المعارضة أو عبر إثارة المخاوف الاجتماعية من تكاليف الاندماج مع أوروبا.

ويسلط هذا المثال الضوء على أن الصراع لا يقتصر على القرارات الرسمية، بل يمتد إلى الحياة اليومية للمواطن المولدوفي، فبينما يَعد الاتحاد الأوروبي بفرص اقتصادية أفضل على المدى البعيد، يخشى الكثيرون من ارتفاع الأسعار وتراجع الدعم الاجتماعي نتيجة الإصلاحات.

ومن جهة أخرى، تقدم روسيا نفسها كحامية للتقاليد والثقافة المحلية، لكنها في الوقت نفسه تفرض تبعية اقتصادية تجعل خيارات مولدوفا محدودة.

ويظهر هذا التوازن الهش كيف يمكن للضغوط الخارجية أن تتحول إلى عبء داخلي يعمق الانقسام الاجتماعي، إذ يجد المواطن نفسه في قلب معادلة معقدة: بين تطلعات نحو مستقبل أوروبي حديث قائم على المؤسسات والإصلاح، وبين علاقات تقليدية مع روسيا ترتبط بالاقتصاد والدين والثقافة.

ولا يقرأ التناقض فقط في البرلمان أو في دوائر صنع القرار، بل ينعكس في النقاشات اليومية، في الإعلام، وفي المواقف العائلية والاجتماعية.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن إغفال البعد الأمني لهذه المعادلة، إذ يشكل وجود إقليم ترانسنيستريا الموالي لروسيا عامل ضغط دائم على كيشيناو.

فالإقليم الذي يتمتع بوجود عسكري روسي رمزي، يذكر باستمرار بأن أي تحرك سياسي نحو بروكسل قد يقابَل بتوترات أمنية أو حتى محاولات لزعزعة الاستقرار، وهنا يصبح التحدي أكثر وضوحا: كيف يمكن لدولة صغيرة مثل مولدوفا أن تدير هذا التوازن الدقيق دون أن تفقد سيادتها أو تتحول إلى ساحة صراع مفتوح؟

إعلان

0 تعليق