تُعَد ممارسة العبادات الدينية الإسلامية مسألة صعبة في فرنسا، وبطريقة قد لا يتخيَّلها غير المُقيم فيها، فالصلاة صعبة في المساجد لأسباب يطول شرحها، والحجاب تُهمة كاملة تجعل المسلمة بلا حق في العمل ولا مرافقة الأبناء إلى المدرسة ولا حتى الخروج للتريُّض، أما المدارس الإسلامية فقد أُغلق أغلبها، والقلة القليلة تنتظر دورها القادم لا محالة.
الشيء الوحيد الذي ينتشر في فرنسا، وتبدو السيطرة عليه صعبة، هو الأكل الحلال.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listفي "بلاد الأنوار"، وفي كل مكان، يزاحم اللحم الحلال باقي اللحوم، سواء عن طريق الجزارين أو الأماكن المُخصَّصة للحوم في المتاجر الكُبرى، كما أن المطاعم المختلفة، من الرخيصة وحتى المتوسطة وأحيانا الغالية، باتت تستعمل اللحم الحلال بسبب تكلفته الرخيصة مقارنة ببقية أنواع اللحوم.
" frameborder="0">
يحضر الحلال في كل مكان إذن، في الموائد والأسواق وعلى طاولات الحوار والنقاشات السياسية. ويحضر أيضا في البورصة والاقتصاد، إلى درجة جعلت بعض المطاعم الشهيرة من قبيل "كويك" تختار تغيير اللحوم التي تستعملها إلى لحوم حلال، مما جعل الإقبال عليها يتضاعف، خصوصا في الأعياد والمناسبات الدينية الإسلامية.
للحلال قصة طويلة في فرنسا وأوروبا، يتداخل فيها الكثير من الفاعلين الذين جعلوا سوق الحلال ملعبا للاقتصاد والسياسة على مر السنين.
سوق حديث
تنفَّست فرنسا المُنهَكة والمُدمَّرة بالحربَيْن العالميَّتيْن الصعداء بوصول عدد كبير من المهاجرين لإعادة بناء المدن والشوارع والمصانع والاقتصاد المنهار ابتداء من ستينيات القرن الماضي، وبطبيعة الحال كان الكثير منهم من دول ذات غالبية مُسلمة أسَّست فرنسا بنفسها صِلتها بهم عن طريق الاستعمار، مثل الجزائر والمغرب.
وقد أدى استقرار المسلمين بفرنسا إلى زيادة الطلب على اللحوم الحلال، لكن الطلب ظل قليلا في البداية بسبب طبيعة المهاجرين، وضعف الوازع الديني في تلك الفترة لدى الكثير منهم.
إعلان
ولكن الوضع أخذ يتغيَّر رويدا على مدار ثلاثين سنة، ففي التسعينيات برزت شخصية "المُستهلِك المسلم"، الذي أصبح أحرص بكثير على ما يضعه في صحنه، ومع تحسُّن مستوى معيشة المسلمين في فرنسا، ازدادت معدلات استهلاك اللحوم، فبعد أن كانت اللحوم تُستهلك في المناسبات الكبرى فقط، اتسع الاستهلاك بكثير وبات اللحم جزءا لا يتجزأ من طعام أبناء المهاجرين الأوائل وأحفادهم.
لعبت الأزمات الصحية مثل جنون البقر والحمى القلاعية دورا في تحسين فُرَص اللحم الحلال، فقد زاد الاهتمام بالذبح أكثر، كما انخفضت أسعار اللحوم وارتفعت جودتها، وأصبحت المسالخ أكثر تجهيزا لإنتاج لحوم وفقا لمعايير الحلال، كما تضاعف عدد هيئات منح شهادات الحلال، حيث وصل إلى المئات، ومن ثمَّ تحوَّل الحلال إلى صناعة قائمة بذاتها.

لفت هذا الانتشار الكبير للحوم الحلال أنظار برامج التوك شو ومن بعدها قُبة البرلمان، ولم تعُد المتاجرة فيها حِكرا على التجار، بل دخل السياسيون عالم الاتجار لتحقيق بعض الأرباح خصوصا في المواسم الانتخابية.
وقد شكَّل عام 2012 نقطة انطلاق نقاش الحلال من خلال الحملات الرئاسية الفرنسية، ففي أثناء الموسم الانتخابي، بدأ الحديث عن الحلال بوصفه "مُنتجا إثنيا"، وعلامة على الانتماء إلى الإسلام بدلا من الأمة الفرنسية، وطُرِحَت حينها آراء ترى أن هذا النوع من الأكل لا يتصالح مع القيم الكونية والعلمانية لفرنسا، بل وصُعِّد الأمر إلى حد اعتبار الحلال مصدرا لاضطراب العلاقات الاجتماعية المفترضة لتنظيم "الهوية الوطنية" الفرنسية لدى الأقليات.
اتخذ حزب الجبهة الوطنية (التجمُّع الوطني حاليا)، الذي تقوده عائلة لوبان، من الحلال أحد أسس برنامجه وعدائه للمسلمين، وقد حاول الحزب اليميني المتطرف توظيف الجانب الصحي بجانب الأيديولوجي، فقد صُوِّرَت هذه الممارسة الإسلامية على أنها "قذرة"، ويظهر هذا في تصريح لمارين لوبان اعتبرت فيه الذبح الإسلامي بمنزلة "قُنبلة صحية".
وما زالت لوبان ترى أن حظر الحلال ضروري لحماية صحة الفرنسيين. وقد استدعت مارين لوبان أيضا قضية "رفاهية الحيوانات" لنقد الذبح الإسلامي واللحوم الحلال، حيث بدأت في إعادة تدوير مطالب الجمعيات الكبرى للرفق بالحيوان، التي طالبت بإيقاف عمليات الذبح الإسلامي عام 2010.

تطرَّق نيكولا ساركوزي أيضا لـ"إشكالية الحلال"، الذي كان رئيسا ومُرشَّحا للانتخابات الرئاسية في السنة نفسها، ودخل مجلس الشيوخ الفرنسي على الخط، وشُكِّلَت لجنة خاصة بهذا الملف لكن مخرجاتها بقيت غامضة.
لفت الأنظار حينها تبني ساركوزي، بوصفه رمزا لليمين الجمهوري، خطابا يتقاطع مع خطاب أقصى اليمين فقد خرج عبر التلفزيون الفرنسي للحديث عن مواضيع عديدة منها "الذبح في البيوت"، وهو ما وَصَم المجتمع المسلم بشيء من الهمجية وعدم احترام قوانين الجمهورية وحقوق الحيوان.
إعلان
لا يُشكِّل الطعام الحلال أداة سياسية وهوياتية لدى اليمين فحسب، بل ولدى المسلمين أيضا، فقد أظهرت بعض المقابلات مع شباب مسلمين تمسُّكهم بأكل الحلال، وقد اعتبروه أمرا لا يَمس هويتهم الفرنسية بأي شكل، ويرى هؤلاء أن الأكل الحلال خيار شخصي مستقل عن عائلاتهم والأجيال الأقدم التي اعتبروها أكثر استسلاما للضغوط الفرنسية في العقود السابقة.
ولذلك فإن الإصرار على الحلال في نظرهم يكسر هيمنة الآباء الذين عملوا مهاجرين في صمت دون حقوقهم الثقافية الكاملة، وفعلوا كل شيء كي يصبحوا فرنسيين، بما في ذلك شرب النبيذ وأكل لحم الخنزير أحيانا، إذ اعتقد بعضهم أن ذلك يضمن المساواة، في حين لم يحصلوا إلا على العنصرية.
مصدر إزعاج مستمر
في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ظهرت تعقيدات جديدة في مسألة الذبح الحلال بعد شروط إضافية فرضتها وزارة الزراعة والأغذية الفرنسية على عملية ذبح الدواجن، مما استدعى ردة فعل رافضة من طرف ممثلي الدين الإسلامي في فرنسا، الذين اعتبروا الشروط تعجيزية لتنفيذ التعليمات مع احترام التعاليم الإسلامية في عملية الذبح، ومن ثمَّ نُظِر إليها على أنها عملية حَظْر شبه رسمية.
يكمن الخلاف في أن مجازر "الذبح الحلال" اعتادت صعق الدواجن بصورة خفيفة قبل الذبح، بحيث تفقد الحيوانات الوعي نسبيا لكنها تظل على قيد الحياة.
بيد أن وزارة الزراعة تشترط الصعق الكهربائي بشكل أقوى، بطريقة تضمن فقدان الحيوان للوعي قبل ذبحه، لكن الأمر يخيف القائمين على المساجد وعلى مجازر "الذبح الحلال"، لأن الصعق الأقوى قد يؤدي إلى موت الحيوان حقيقة قبل ذبحه دون قصد، مما يجعله "جيفة" لا تَحِل، فيما ينفي المختصون احتمال الوفاة في هذه الحالة. أما الحل الثاني الذي يقترحه المختصون فهو عمليات الذبح الآلي لضمان عدم شعور الحيوان بالألم، وهي عملية مكلفة جدا.
بسبب هذا التشدُّد الفرنسي في التعامل مع الذبح الحلال، أعلنت 3 مساجد كبرى في فرنسا في باريس وليون وإيفري رفضها لهذه السياسة في بلاغ لها، وأخبرت الهيئات الإسلامية الثلاث بأنها ستنقل مخاوفها إلى وزارتَيْ الداخلية والزراعة، ولكن لم تظهر نتائج إيجابية لتلك الاحتجاجات حتى الآن.

ولم يكن هذا التخوُّف غير مبرر، فقد ضيَّقت الحكومة الفرنسية بقيادة ماكرون على المسلمين عبر قوانين مختلفة، ثم أتى هذا المشروع الخاص بالذبائح الحلال حلقة جديدة في هذا التضييق.
في الوقت نفسه، بدأ التفكير جديا في طرق الاستفادة الاقتصادية من أموال المسلمين، مع الحد من أي مساحات مجتمعية لهم في الوقت نفسه، وهو ما تعزَّز بقانون "الانعزالية الإسلامية"، الذي أتى في وقت كان فيه الحلال سوقا غنيا يدرُّ الأموال على الدول الغربية ومن بينها فرنسا.
وتقول الباحثة فلورنس بيرجو بلاكليه في كتابها "فهم الحلال" الصادر عام 2010 إن سوق الحلال ابتكرته الدول الغربية بنفسها في السبعينيات والثمانينيات من أجل تصدير اللحوم إلى البلدان الإسلامية، وفي بداية الأمر كان الحلال سوقا لتصريف المنتجات الفائضة.
من أجل تسهيل الربح، فضَّلت المسالخ ذبح دفعات كاملة وفق الشريعة الإسلامية، حتى لو سُوِّقَ جزء منه فقط بوصفه حلالا. ولذلك قدَّرت بعض الدراسات عام 2011 أن رُبع الحيوانات في فرنسا، وخاصة الأغنام، تُذبح وفق الشريعة الإسلامية.
بيد أن الشكوك في كون الحلال حلالا بالفعل كانت وما زالت محل شك، ففي العام نفسه، اتُّهِمَت شركة "هيرتا" ببيع نقانق حلال تحتوي على الحمض النووي لخنزير، فسُحِب المنتج رغم تبرئة الشركة والهيئة المُصدِّقة.
ما حجم الحلال؟
في تقرير لصحيفة "لوموند" عام 2016، أشارت دراسة إلى أن سوق الحلال في فرنسا يقارب 5.5 مليارات دولار. وفي تقرير آخر لعام 2019 قالت قناة "بي إف إم" إنه رغم استمرار تزايد مبيعات المنتجات الحلال في المتاجر الكبرى، فإن نمو السوق نفسه يظل بطيئا ومتواضعا.
إعلان
وأضافت القناة إن الحلال يُمثِّل 0.3% فقط من مبيعات المنتجات الاستهلاكية في المتاجر الفرنسية، وهو ما يساوي حجم مبيعات "البيرة الحرفية"، وهي أصغر من سوق البيرة أو الكحوليات في العموم.
ويتساءل التقرير ما إن كان الحلال سيفقد زخمه في فرنسا، وهو أمر تُقر القناة بصعوبة تقديره، لأن الدراسات المتوفرة لا تتحدث في الغالب إلا عن الحلال الذي يُباع في الأسواق الممتازة، وهو يظل قليلا جدا، ونسبة ضعيفة من مجموع الحلال الذي يباع خارج نطاق المتاجر الكبرى، مع العلم بأن المنتجات الحلال لا تحتل إلا حيزا صغيرا في الأسواق الممتازة.
أمر ثانٍ لا يقل أهمية هو أن الجالية الإسلامية في الحقيقة تتعامل بحذر كبير مع العديد من الشركات العالمية التي تتاجر في الحلال، فشركة "هيرتا" مثلا، التابعة لمجموعة "نيسلي"، توقفت عام 2012 عن إنتاج منتجات حلال بسبب "الطلب غير الكافي" الذي نتج عن دعاية سيئة بعد اكتشاف آثار لحم خنزير في منتجاتها الحلال.
بسبب عدم الثقة في الشركات الكبرى، باتت الشركات الصغرى من قبيل "إيسلا ديليس" هي المُسيطرة على سوق الحلال، وهي شركة صغيرة تُمثِّل بمفردها نصف لحوم الحلال المتوفرة في المتاجر الكبرى، وقد تأسست عام 1990 على يد جان دانييل وفريديرك هيرتسوغ، وهما يهوديان فرنسيان. وقد واجهت الشركة اتهامات بتمويل إسرائيل قبل أن تُباع عام 2018 لصندوق استثماري بريطاني مقابل 80 مليون يورو.
رغم دخول الشركات في هذا المجال، فإن الجزء الأكبر من السوق لا يزال تقليديا، في المجازر المستقلة والمطاعم، ومن المستحيل قياس حجمه بدقة. فحسب بعض الدراسات، تمر 85% من اللحوم الحلال المبيعة في فرنسا عبر هذا القطاع من المجازر المستقلة.
" frameborder="0">
وتتمثل صعوبة قياس حجم هذه التجارة في تصريح قاله باتريك جيمونيت، المدير العام للاتحاد الفرنسي للمجازر، قال فيه إن جزءا صغيرا من المجازر الحلال يخضع لإشراف الاتحاد، فهناك 18 ألف مجزر تقليدي ولا أحد يعرف كم منها حلال.
تتضارب الأرقام والمعلومات إذن حول حجم سوق الحلال في فرنسا، وحول حجم الأرباح. وفي هذا السياق صدر تقرير لوكالة "فرانس 24" عام 2021 أشار إلى أنه رغم تواضُع نِسبة مبيعات المنتجات الغذائية الحلال في فرنسا مقارنة بالمواد الأخرى، فإن التجار في هذا السوق يجنون أرباحا في ارتفاع مستمر.
وقال التقرير إن المنتجات الحلال، بعد أن كانت تقتصر على الضواحي الفرنسية، أصبحت اليوم منتشرة في كل مكان لا سيَّما في المدن الفرنسية الكبرى.
ويشير موقع "فرانس 24" إلى أن ارتفاع المواد الاستهلاكية الحلال لا يرتبط بشهر رمضان فحسب، إذ يقول فريديريك يو، مسؤول الواردات بمحلات "أوشان"، إن المبيعات بين عامي 2010-2020 في فرنسا تضاعفت، وهي مرشحة للارتفاع أكثر. وقد شهدت شركة "إيسلا ديليس" ارتفاعا مشابها، حيث حقَّقت نموا سنويا ما بين 8-10%.
ويفيد التقرير أن المنتجات الحلال وفق أرقام الاتحاد الفرنسي للتسويق والتوزيع لا تزال ضعيفة في المتاجر مقارنة بالمحلات الصغيرة، إذ لا تمثِّل سوى 376 مليون يورو من أصل 100 مليار يورو من المعاملات المالية لجميع المنتجات (بما فيها غير الحلال).
أكل غير مرغوب فيه
في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2020، حلَّ جيرالد دارمانان، وزير العدل الحالي، ووزير الداخلية السابق، وأحد أبرز خصوم الشعائر الإسلامية في فرنسا، ضيفا على إذاعة "فرانس إنتر"، وكرَّر تصريحا سابقا قائلا إنه يتحفظ على وجود أقسام وأماكن خاصة لبيع الحلال، مضيفا: "لا أظن أن النموذج الرأسمالي الفرنسي يقوم على القبول بالليبرالية بأي ثمن"، في إشارة إلى أن سوق الحلال تحدٍّ للهوية الفرنسية.
سيلعب دارمنان لعبة المدافع عن الإسلام، حين سيقول إن كثيرا من المسلمين الفرنسيين لا يجب التمييز ضدهم على أساس دينهم أو استهلاكهم، ولكن لا يجب السماح في الوقت نفسه بأن ترجح كفة "الحُريات" بالتعريف الليبرالي أو الرأسمالي على تعريف الجمهورية للهوية الفرنسية والعلمانية: "أنا أقول ببساطة إن هناك مسؤولية تقع على عاتق المجتمع بأسره لتفادي التقوقع المجتمعي. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، ألا يحق لكل فرد أن يلبس كما يشاء في الجمهورية أو أن يأكل ما يشاء داخل الجمهورية. ونحن نملك الحق في انتقاد الرأسمالية في بلدنا".
صحيح أن اللحم الحلال ما هو إلا قِطَع من اللحم توضع في صحن أو خبز، لكنه في فرنسا أكبر من ذلك، إنه هوية كاملة يتنازعها الفرنسيون مع أبناء المهاجرين، فيما تبحث الشركات أيًّا كانت جنسيتها أو ديانتها عن تحقيق مكاسب من ورائها بترويج اللحوم الحلال في صفوف المسلمين.
إعلان
0 تعليق