عاجل

غزة والعالم … هل تغيرت ألمانيا بعد عامين من الإبادة؟ - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بعد عامين من الإبادة في غزة..ألمانيا حظرت جزئيا تصدير الأسلحة لإسرائيل (الجزيرة)

بعد عامين من الإبادة في غزة..ألمانيا حظرت جزئيا تصدير الأسلحة لإسرائيل (الجزيرة)

جرّب أن تأتي على سيرة إسرائيل أو اليهود أمام أي إنسان ألماني عادي. لا تنتظر منه كلاما أو موقفا واضحا. اكتفِ بمراقبة إيماءاته وتعابير وجهه في الثواني الأولى من مجرد قولك إن إسرائيل تقع في الشرق الأوسط.

ردّه سيختلف بحسب طبيعة العلاقة ومنسوب الثقة بينك وبينه. ولكنه في البداية سيصمت مهما كانت طبيعة هذه العلاقة. ليس لأن الصمت والدقة في اختيار الكلمات والامتثال للقوانين كلها أمور تعد من أهم سمات شخصية الناس في وسط أوروبا، بل لأنه غالبا سيخاف.

ربما لأنه سيشعر بعقدة الذنب اتجاه ملايين البشر الذين قتلهم نازيون ألمان وغير ألمان باسمه أو لأنه سيخاف من فقدان شيء ما ـوظيفته مثلاـ أو لأنه يكره اليهود ويخاف من الجهر بذلك أو لأنه متضامن مع الفلسطينيين ويتوجس من وصمه بالتهمة الجاهزة العداء للسامية.

كل ذلك أسباب مقنعة للشعور بالخوف ولكن في الحالة الألمانية، يتحول هذا الشعور الإنساني الطبيعي إلى حالة اجتماعية ومرض مزمن تتناوب على علاجه كتب ودراسات ونظريات فلسفية وتهمة يُصطلح عليها في ألمانيا وفي ثقافة المنطقة الناطقة بالإنجليزية بتعبير "German Angst" (الخوف الألماني).

الطريقة التي تعاطت بها ألمانيا مع حرب الإبادة في قطاع غزة لا تخرج عن إطار هذه الحالة ولا تختلف كثيرا عن طريقة تعاطيها مع أزمات الأعوام الماضية، سواء تعلق الأمر بوباء كورونا أو بالحرب الأوكرانية أو بمخاوف من تقويض أسس أنموذج الرخاء الاقتصادي السائد في ألمانيا منذ نهاية الحرب.

ويُعرّف كتاب "آثار الحرب. المرض الألماني German Angst"  للكاتبة سابين بودي على أنه ليس "خوفا فرديا يصيب بعض أفراد المجتمع دون غيرهم، بل شعور جمعي يشمل المجتمع بأكمله ويتجذر كلما اتسمت سياسة الحكومة وخطاب الإعلام بالتردد والخوف"، وهذا يعني أننا نتحدث عن مصطلح سياسي بحت وليس عن ظاهرة  سيكولوجية.

"سبب (الخوف الألماني) "German Angst" الذي يفهم كمزيج من اليأس والتردد هي الأعباء القديمة للحرب العالمية الثانية ونتيجة عدم معالجة الحزن والوجع الناجمان عن هذه الحرب".

المصدر: كتاب "آثار الحرب. المرض الألماني German Angst".

درا نشر Klett-Cota. شتوتغارت 2016

في حالة العلاقة بين ألمانيا وإسرائيل تواجه الألمان مشكلة مركبة. فالمسألة لا تتعلق بالحالة المرضية المشار إليها فحسب، بل أيضا بإشاعة أجواء من التخويف الممنهج لاسيما في أوساط الصحفيين بوصفهم صناعا للرأي العام والشخصيات العامة والنخب.

تخويف وحملات تحريض

من أبرز الصحفيين الذين يراقبون منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول أداء الإعلام الألماني ويرصدون تغطيته لأحداث حرب الإبادة في غزة، فابيان غولدمان.

يقول غولدمان المختص في نقد الإعلام في حديث مع الجزيرة نت إن العنوان الأبرز للمضايقات التي يتعرض لها الصحافيون في ألمانيا هو الخوف.

وأشار غولدمان إلى حملات التحريض الممنهجة التي يتعرض لها الصحفيون من مسؤوليهم في إدارات التحرير وفي الوقت ذاته من جهات سياسية على سبيل المثال من السفارة الإسرائيلية التي لا تتردد في الاتصال بصحفهم وفي مطالبة هذه الصحف بتغيير طريقتها في تغطيتها للأحداث في غزة.

ووفق غولدمان فإن عدم الإذعان لمطالب السفارة الإسرائيلية يعني في بعض الأحيان تعرض الصحفيين المعنيين لحملات من التحريض أو لتهم العداء للسامية الأمر يشكل قلقا كبيرا للصحفيين ويجبرهم في بعض الأحيان على تغيير اقتناعاتهم أو على الصمت وفي بعض الأحيان على ترك مهنة الصحافة كليّا.

انتقاء مصادر الأخبار

ولأن الخبر يعد قلب مهنة الصحافة ويعتمد الصحفي في كتابته على معايير وحقائق موضوعية ومعلومات موثوق بها وليس على رأيه أو على توصيف حالة ما، اعتمد غولدمان في تقييمه لأداء الإعلام الألماني على 4853 خبرا نشرت في أبرز الوسائل الإعلامية الألمانية بعد السابع أكتوبر 2023. وحدد غولدمان أربع وسائل هي تاغِسشاو أكبر وسيلة إعلامية ألمانية على الإطلاق وصحيفة بيلد أكبر صحيفة يومية في ألمانيا ودي تسايت أكبر صحيفة أسبوعية ودير شبيغل أكبر مجلة أسبوعية.

ووفق نتائج التقييم، اعتمدت الوسائل الإعلامية المذكورة على مصادر فلسطينية في كتابة 244 خبرا فقط (5 بالمئة) وعلى مصادر لبنانية وإيرانية ويمنية وسورية في كتابة 293 خبرا (6 بالمئة) وعلى مصادر من 45 دولة عربية وإسلامية في صياغة 593 خبرا بينما اعتمدت على مصادر إسرائيلية في كتابة 2100 خبر (43,3 بالمئة) وعلى مصادر من حلفاء إسرائيل لاسيما من الولايات المتحدة في كتابة 580 خبرا (12 بالمئة).

أما نصيب المصادر الدولية لاسيما الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمي والأونروا من الأخبار فقد بلغ 8 بالمئة فقط بواقع 389 خبرا من بين 4853 خبرا.

يقول غولدمان إن اعتماد الوسائل الإعلامية الأربع في اختيار مصدر المعلومة على "جنسية" هذا المصدر يخالف بشكل واضح المعايير المعمول بها في الأوساط الصحفية وهي الأهمية والآنية وهل المعلومات متاحة وهل تحظى بالصدقية اللازمة مضيفا "لأن الحرب تدور منذ السابع من أكتوبر في غزة، فإنه من الطبيعي والمفروض أن تكون غالبية مصادر الأخبار فلسطينية مثل شهود العيان وفرق الإنقاذ والمنظمات الدولية والمراسلين على الأرض وليس الحكومات".

ولكن نتائج الدراسة كما يقول غولمدمان تبين بوضوح عكس ذلك، إذ إن 3517 خبرا (72,5 بالمئة) من بين 4853 خبرا تم نقلها عن مصادر حكومية أو أجهزة مخابرات أو الجيش علما بأن "أخذ مسافة" من الجهات الرسمية يعد معيارا مهما لأي صحفي عندما ينقل الخبر، إذ إن البروباغندا والمعلومات المضللة تعد من أهم ترسانات الأطراف المتحاربة.

هنا يبدو التساؤل عن ادعاء وسائل الإعلام الألمانية بأنها موضوعية في نقل أخبار الحرب على غزة محقا. إذ يؤكد غولدمان أن الوسائل الأربع اعتمدت بنسبة 35,5 بالمئة على الحكومة والجيش الإسرائيليين في حين اعتمدت بنسبة 4 بالمئة فقط على مصادر حكومية فلسطينية.

وما يزيد الطين بلة هو لجوء الإعلام الألماني لمصادر حكومية فلسطينية فقط عندما يتعلق الموضوع بانتقاد حركة حماس مثل "عباس يتنصل من أفعال حماس" (تاغِسشاو 16 أكتوبر 2023) أو "حماس تتبنى اعتداء القدس" (دي تسايت 1 ديسمبر 2023) أو "حماس ترفض هدنة قصيرة" (دير شبيغل 25 ديسمبر 2023).

أعباء غير عادية ومناخ من الخوف

التقرير الأخير الذي أصدرته منظمة "مراسلون بلا حدود" لا يختلف في نتائجه كثيرا عن مراقبات غولدمان. تقول المنظمة إن الصحفيين الذين يختصون في نقل أخبار الحرب الإسرائيلية على غزة يُطلعونها باستمرار على الأعباء "غير العادية" التي يتعرضون لها من داخل وخارج إدارات التحرير في صحفهم ومجلاتهم ويُفاجَؤون في بعض الأحيان برفض اقتراحات لكتابة تقارير عن الحرب الدائرة ومعاناة الفلسطينيين في القطاع وبالمضايقات التي يتعرضون لها بمجرد التضامن مع الضحايا على الطرف الفلسطيني.

وينتقد التقرير ممارسات إدارات التحرير بحق هؤلاء الصحفيين بالقول إنهم يعملون في مناخ معاد ويتعرضون لحملات من الكراهية والتحريض ولضغوطات من رؤساء التحرير الأمر يعرضهم لمنغصات نفسية.

فلسطينيون يعاينون آثار قصف إسرائيلي لمنزل في غزة في 26 سبتمبر الماضي (رويترز)

فلسطينيون يعاينون آثار قصف إسرائيلي لمنزل في غزة في 26 سبتمبر الماضي (رويترز)

كما أطْلع الصحفيون -بحسب التقرير- المنظمة على مناخ الخوف الذي يعملون فيه، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى أن يراقب هؤلاء الصحفيون أنفسهم بأنفسهم.

وبحسب التقرير فإن صحفيين كثيرين مختصين في شؤون الشرق الأوسط لم تكشف المنظمة عن هوياتهم توجهوا إلى "مراسلون بلاد حدود" واشتكوا من رفض رؤساء التحرير انتقاد الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة ومن إجراء تعديلات على نصوصهم بما يتماشى مع الدعاية الإسرائيلية.

وتشير استقصاءات المنظمة إلى قيام بعض الصحف والمجلات بالاستغناء عن الصحفيين "غير المريحين" أو باستبدال عقودهم الدائمة بأخرى مؤقتة.

وخص التقرير صحفيين من أصول مهاجرة وخاصة صحفيين من أميركا اللاتينية والشرق الأوسط بالقول إن هؤلاء الصحفيين يخافون قبل كل شيء من فقدان وظائفهم ومن تعرضهم لحملات تحريض أو من وصمهم بتهمة العداء للسامية فور انتقادهم ممارسات الجيش الإسرائيلي في القطاع أو محاولتهم الإضاءة على معاناة الفلسطينيين.

الموسوعة - شعار صحيفة بيلد - bild
صحيفة بيلد انفردت باستخدام تعبير " الإبادة" (الجزيرة)

في الواقع، قلما ينسجم الإعلام الألماني المؤثر مع مواقف الحكومة. فقد سبق لصحف ومجلات ألمانية أن أسقطت رئيسا (كريستيان فولف في عام 2012) ووزير دفاع وحكومة (حكومة كونراد آدِناور ووزير دفاعه فرانس يوزف شتراوس 1962 ـ 1963) والأمثلة على صدام مجلة دير شبيغل وصحيفة بيلد مع السلطات الألمانية كثيرة، إلا في الحالة الإسرائيلية. فمنذ السابع من أكتوبر، كان الانسجام بين الطرفين واضحا ولم يبدأ الإعلام الألماني (باستثناء صحيفة بيلد وجميع الصحف الصادرة عن دار نشر أكسل شبرِنغر) تسمية الإبادة إبادة إلا بعد إعلان حكومة فريدريش ميرتس وقفا جزئيا لصادرات الأسلحة إلى إسرائيل، الأمر الذي وُصف بأنه "تحول مهم" في موقف الحكومة اتجاه الحرب.

"ألمانيا في ورطة ..."

في بداية أغسطس/آب الماضي كتب السفير الإسرائيلي السابق في ألمانيا (2001 لغاية 2007) شيمون شتاين مقال ضيف مشترك مع البروفسور الإسرائيلي موشي تسوكرمان في الصحيفة الألمانية النخبوية دي تسايت.

في هذا المقال الذي حمل عنوان "جاءت ساعة الحقيقة" يضع الكاتبان -وكلاهما يعرف ألمانيا جيدا- حكومة المستشار فريدريش ميرتس أمام حقيقة مجردة. يقولان: "على ألمانيا أن تقرر كيف توفق بين وفائها للأسس الراسخة في دستورها من جهة والتزامها غير القابل للمساس بأمن إسرائيل وحقها في الوجود من جهة أخرى (...) ألمانيا وقعت في ورطة على الأقل منذ تشكيل حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة في ديسمبر من عام 2022. ولكن السياسيين الألمان لا يريدون تقبل هذه الحقيقة".

من يراقب سياسة الحكومة الألمانية اتجاه إسرائيل منذ بدء الحرب، سيقرأ مقال شتاين وتسوكرمان باهتمام كبير لأنه سيربط بين "الكرم" الألماني في دعم إسرائيل وحالة الصدام مع الأسس التي قامت عليها ألمانيا بعد الحرب نتيجة هذا "الكرم". فالحكومة الألمانية ملتزمة منذ السابع من أكتوبر بخط واضح لم يحِد عن مساره:

تضامن غير مشروط يصل أحيانا إلى حد التملق، ودعم لا يتوقف بالأسلحة، واستعداد لخوض معارك دبلوماسية حتى آخر رمق في المحاكم والمؤسسات الدولية، مما يجعل ألمانيا التي تعد من أكبر الداعمين لهذه المؤسسات في حالة صدام مع هذه المؤسسات، بل حتى مع نفسها.

هذه المواقف تبقى أيضا منسجمة مع السياسة التقليدية للمحافظين الألمان (حزب المستشار الحالي فريدريش ميرتس المسيحي الديمقراطي) بشأن إسرائيل واليهود. فالمستشار الذي وقع في عام 1952 اتفاقية لوكسمبورغ للمصالحة بين "المجرمين" و"الضحايا" كان المحافظ كونراد آدنوار والمستشار الذي دشن في عام 1965 العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل كان المحافظ لودفيغ إيرهارد والمستشارة التي نقلت العلاقة في عام 2008 أمام الكنيست إلى مرحلة "أمن إسرائيل مصلحة وطنية ألمانية" كانت المحافظة أنجيلا ميركل.

المحافظان ميرتس ووزير خارجيته يوهان فاديفول بدآ عهدهما بعد سقوط حكومة الاشتراكي الديمقراطي أولاف شولتس بتصريحات خارجة عن المألوف في علاقة ألمانيا بإسرائيل قبل أن يتجرأ المستشار في بداية أغسطس/آب الماضي على اتخاذ قرار بوقف جزئي لصادرات الأسلحة إلى إسرائيل.

علاوة على ذلك، فمن المحافظين الألمان شق "بافاري" نسبة إلى الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري الذي يشكل مع حزب ميرتس المسيحي الديمقراطي الاتحاد المسيحي الديمقراطي ويعد أمتن قلاع إسرائيل في ألمانيا.

"إنه (عدم تزويد إسرائيل بالسلاح) لإشارة خاطئة بجميع المعايير وخطيئة عظيمة سنتحمّل وطأتها".

(ماركوس زودر، رئيس الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري)

"إنه (عدم تزويد إسرائيل بالسلاح) لإشارة خاطئة بجميع المعايير وخطيئة عظيمة سنتحمّل وطأتها".

(ماركوس زودر، رئيس الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري)

ذرف المستشار الألماني ميرتس دموعا على ضحايا النازية يوم إعلان الأمم المتحدة أن إبادة جماعية ترتكب في غزة (رويترز)

ذرف المستشار الألماني ميرتس دموعا على ضحايا النازية يوم إعلان الأمم المتحدة أن إبادة جماعية ترتكب في غزة (رويترز)

دموع ميرتس

هذا التصريح لماركوس زودر جاء بعد إعلان ميرتس وقفا جزئيا لصادرات الأسلحة لإسرائيل ولكن قبل واقعة "دموع ميرتس" التي ذرفها في منتصف سبتمبر/أيلول الماضي أثناء خطاب ألقاه بمناسبة إعادة افتتاح كنيس يهودي في ميونخ عاصمة ولاية بافاريا.

فعندما وصل ميرتس في هذا الخطاب إلى جزئية ملاحقة اليهود في ألمانيا النازية، انكسر صوته وحاول حبس دموعه ولكنه فشل وأجهش بالبكاء.

ولأن البكاء أمر غير مألوف بالنسبة لرؤساء الدول والحكومات ولأنه يأتي في وقت يشهد فيه العالم إبادة جماعية جديدة، استهجن البعض دموع ميرتس واعتبروها كما يقول الصحفي هانو هاونشتاين "سياسة انتقائية".

ففي اليوم الذي انهمرت فيه دموع ميرتس حزنا على الجرائم التي ارتكبها النازيون بحق اليهود في أوروبا، "بالتحديد في هذا اليوم -يقول هاونشتاين في حديث مع الجزيرة- أعلنت الأمم المتحدة أن ما يحدث في غزة إبادة جماعية وهذا الإعلان يأتي بعد قول منظمة العفو الدولية وعدد كبير من الباحثين والمرجعيات المهمة المختصة في مجال الإبادة الجماعية إن غزة تشهد إبادة جماعية الأمر الذي يشملني أنا أيضا، تحديدا في هذا اليوم يقف مستشار ألمانيا ويعجز عن تسمية الأشياء بأسمائها وفي الوقت ذاته يحاول إخفاء دعم بلاده لإسرائيل بالأسلحة وبالتالي تتحمل ألمانيا جزءا من مسؤولية ما يحدث في غزة  هذا كله يدفعني إلى القول إن ذلك يندرج في إطار ما وصفته بالسياسة الانتقائية".

ولكن لماذا يحمل هاونشتاين ألمانيا جزءا من هذه الإبادة الجماعية؟

الصحفي يقول إن ألمانيا أوقفت صادرات الأسلحة إلى إسرائيل بشكل جزئي فقط وهذا يعني أن العقود الموقعة ما زالت مستمرة وما زال الجيش الإسرائيلي لغاية اليوم يحصل من ألمانيا على عدة أنواع من الأسلحة أهمها محركات دبابة ميركافا ومقذوف ماتادور.

ويعد ماتادور أو "RGW 90" الذي تنتجه شركة صناعة الأسلحة الألمانية دينامايت نوبل ديفنس أخف مقذوف في العالم وحصلت إسرائيل على 3 آلاف قطعة منه بحسب المؤسسة البحثية فورنسِس  (Forensis).

ولكن هل يعتبر هذا الوقف الجزئي لصادرات السلاح إلى إسرائيل بالفعل "تحولا مهما" في سياسة ألمانيا حيال حرب الإبادة كما تسوق بعض الصحف الألمانية؟

"تغير طفيف" يرد هاونشتاين ويضيف أن هذا الإعلان الجزئي لا يعني أن شركة "RENK" مثلا توقفت عن إرسال محركات لدبابة ميركافا لأن ميرتس لم يقل سنوقف صادرات الأسلحة لإسرائيل فورا وهو يستطيع القيام بذلك، بل اكتفى بالقول إن حكومته لن تمنح للشركات تراخيص تسلح جديدة.

لماذا الآن؟

هذا "التغير الطفيف" في موقف حكومة ميرتس يطرح سؤالا عن الأسباب في هذا الوقت بالذات. هاونشتاين يتوقع أن ذلك يأتي بسبب تغيير "الرياح اتجاهها في الاتحاد الأوروبي وفي العالم" ولكن أيضا بسبب "الضغوطات" التي يمارسها الرأي العام الألماني على الحكومة لأن نتائج استطلاعات الرأي واضحة وتظهر أن أكثر من 80 بالمئة من المواطنين يستنكرون ما يحدث في غزة ويطالبون بوقف الحرب الأمر الذي تراه الحكومة الألمانية ولا تستطيع تجاهله.

علاوة على ذلك -يضيف- "هناك الجانب القانوني وأقصد هنا الشكوى القضائية المرفوعة منذ مارس 2024 ضد ألمانيا أمام محكمة العدل الدولية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، واستمرار إسرائيل في ارتكاب الجرائم في قطاع غزة يزيد موقف ألمانيا صعوبة (...) هذا كله إضافة لمجموعة من الشكاوى المرفوعة ضد الحكومة أمام المحاكم الألمانية".

ووفق هاونشتاين فإن الجهات التي رفعت الشكوى تحاول الوصول إلى المحكمة الدستورية العليا، وإذا وصلت هذه القضايا بالفعل إلى هذا المستوى فإن المسألة ستدخل بالنسبة للحكومة الألمانية إلى "مرحلة الجد".

هل تغير الإعلام؟

بعد أيام من إعلان المستشار الألماني الوقف الجزئي لتصدير السلاح لإسرائيل، تولد انطباع لدى المراقبين بأن الإعلام الألماني المؤثر بدأ يتحرر لدرجة أن المجلة المحسوبة على اليسار الليبرالي دير شبيغل عنونت مقالا لأحد أبرز صحافييها وهو ماتيو فون رور بـ"حرب تجويع بمساعدة ألمانية".

فابيان غولدمان لا يعتبر ظهور بعض المقالات التي تنصف الفلسطينيين دليلا على تغيير الإعلام الألماني لهجته حيال حرب الإبادة في غزة ويقول "ظهور مقالات جيدة بين الحين والآخر في مجلة دير شبيغل أو في موقع القناة التلفزيونية الأولى "ARD" (تاغِسشاو) لا يعني أبدا أن المجلة أو القناة غيرت نهجها في نقل أخبار غزة أو عالجت فشلها. فالفضل في ذلك يعود لجهود فردية من بعض الصحفيين المهنيين الذين تمكنوا رغم الضغوطات الهائلة من تمرير مثل هذه المقالات".

ويضيف أنه لا يلاحظ تغيرا جوهريا في نقل أخبار الحرب علما بأن الصحفيين في ألمانيا بشكل عام يتمنون ذلك وينتظرونه ويناقشون ما إذا كانت "الرياح قد غيرت مجراها" أو "بدأت مرحلة جديدة" بعد الوقف الجزئي لتصدير السلاح لإسرائيل و"لكنني أسمع ذلك منذ بدء الحرب. بعد أسبوع من السابع من أكتوبر كان البعض يتوقع حدوث تغيير ولكنه لم يحدث وكذلك بعد قرار محكمة الجنايات الدولية أو تقرير الإبادة لمنظمة العفو الدولية والآن قرار الحكومة الألمانية بوقف جزئي لصادرات السلاح إلى إسرائيل. دائما كنا نعتقد أن ذلك سيكون سببا في وصول الإعلام الألماني إلى نقطة تحول، ولكن دائما كانت المياه بعد أسابيع قليلة تعود إلى مجاريها، الأمر الذي يدفعني إلى القول إن بعض التغييرات تحدث ولكن نحو الأسوأ".

وجزم غولدمان بأن الإعلام الألماني لم يكتف بخيانة معاييره وتقديم صحافة سيئة للجمهور وعدم القيام بواجبه المتمثل في إطلاع الرأي العام على حقيقة ما يحدث ومراقبة السلطة، بل تخطى ذلك وشارك في تحمل جزء من المسؤولية وذلك من خلال تبني البروباغندا الإسرائيلية التي تعتبر جزءا من الحرب لأن تدمير القطاع الصحي في غزة على سبيل المثال لم يبدأ بعملية التدمير في حد ذاتها، بل ببيانات الجيش الإسرائيلي التي كانت تتهم حركة حماس بتحويل المستشفيات في القطاع إلى مقرات لها ومن خلال تبني الإعلام الألماني رواية الجيش الإسرائيلي، تتحول المستشفيات إلى هدف مشروع ولهذا يمكن تحميل الإعلام الألماني أيضا جزءا من مسؤولية الجرائم في غزة.

في المجمل، تشمل انتقادات غولدمان للإعلام الألماني جميع الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية المؤثرة (Mainstream) ولكنه يخص صحافة الناشر أكسل شبرينغر وتحديدا الصحيفة الصفراء بيلد التي تعد أكبر صحيفة يومية في ألمانيا على الإطلاق.

وتختص الصحيفة منذ بدء العدوان في تسويق رؤية وبيانات الجيش الإسرائيلي ولكنها وصلت إلى الذروة بعد اغتيال صحفيي الجزيرة في العاشر من أغسطس/آب أنس الشريف وزملائه ومحمد قريقع وإبراهيم ظاهر ومؤمن عليوة ومحمد نوفل.

وفور اتهام الجيش الإسرائيلي الصحفي بأنه "إرهابي تنكر في زي صحفي" تبنت هذه الصحيفة رواية جيش الاحتلال وعنونت "قتل صحفي في غزة متنكر في زي صحفي" و"إسرائيل تقتل صحفيا في غزة.. صحفي أم إرهابي؟".

تغطية أخبار غزة

ولعل أوفى الدراسات التي أجابت عن سؤال حول ثقة الرأي العام الألماني في الإعلام عندما يتعلق الموضوع بنقل أخبار الحرب على غزة كانت دراسة لبرنامج "ZAPP" للقناة التلفزيونية الأولى (ARD).

ووفق نتائج هذه الدراسة، فإن 48 بالمئة من المواطنين في ألمانيا لا يثقون بتاتا أو لا يثقون إلا قليلا في تغطية الإعلام الألماني أخبار غزة، الأمر الذي علق عليه رئيس التحرير في القناة أوليفر كور بالقول إن هذه النتائج "مرعبة".

وتقول الدراسة إن 5 بالمئة فقط يعتبرون التغطية متحيزة للفلسطينيين في حين يقول 31 بالمئة إنها متحيزة لإسرائيل و38 بالمئة يعتبرون التغطية متوازنة.

ورغم "رعب" هذه الأرقام يعثر المراقب في بعض الأحيان على مقالات لصحافيين "مهنيين" على رأي المختص في نقد الإعلام فابيان غولدمان ينصفون الضحايا في الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين ويقرون بتأخر الحكومة الألمانية في اتخاذ حظر تصدير السلاح إلى إسرائيل مثل مقال الرأي الذي نشرته مجلة دير شبيغل مؤخرا للكاتبة دنيا رمضان بعنون "أن تأتي متأخرا أفضل من ألا تأتي قط".

المصدر: الجزيرة

0 تعليق