معاهدة وضعتها الأمم المتحدة عام 1982 لتنظيم الأنشطة بالمحيطات حول العالم، وتسمى "اتفاقية جامايكا" أو "قانون البحار". وبدأت المفاوضات حولها عام 1973 واستمرت سنوات، ومع ذلك لم تدخل حيز التنفيذ رسميا إلا يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1994، بسبب اعتراض الولايات المتحدة على بعض بنودها، خاصة تلك المتعلقة بالموارد المعدنية في أعماق المحيطات.
وتشمل هذه الاتفاقية مجالات عدة من بينها القوة والتجارة البحريتين، ومصالح الدول الساحلية، وحماية البيئة البحرية، إضافة إلى البحث العلمي البحري، وتسوية النزاعات البحرية الدولية.
التطور التاريخي للقانون
تعود بداية تنظيم البحار إلى القرن السابع الميلادي بعدما أنشأ البيزنطيون قانون "لاكس روديا دوياكتو" أو "قانون رودس للإلقاء في البحر" وسمي على اسم جزيرة رودس اليونانية التي كانت قوة بحرية وتجارية مهمة في البحر المتوسط آنذاك.
واستند القانون إلى مدونة أعدها الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول بالقرن السادس الميلادي، وتحدثت عن حالات الطوارئ التي يضطر فيها الربان إلى رمي جزء من بضاعته من أجل إنقاذ السفينة من الغرق.
وفي هذه الحالة لا يتحمل صاحب البضاعة وحده الخسارة، بل يتقاسمها صاحب السفينة وأصحاب البضائع والركاب، كما أسهم القانون في وضع الأسس الأولى لأنظمة التجارة والملاحة البحرية.
وقد واجه البيزنطيون بعد القرن الثامن تعقيدات كثيرة بالبحر. فمع تطور حركة التجارة وزيادة عدد الرحلات البحرية ومخاطر العواصف والقرصنة، اضطروا إلى صياغة قوانين تنظيمية أوسع بين التجار وأصحاب السفن والبحارة وأنشؤوا قانون رودس البحري "نوموس روديون نوتيكوس" لكنه لم يطبق فعليا حتى القرن الـ12 الميلادي.
وفي القرنين الـ13 والـ14 الميلاديين بدأت التجارة البيزنطية تتراجع تدريجيا، إلى أن أصبح القانون مهملا.

مبدأ "حرية البحار"
أوائل القرن الـ17 تغير طابع التجارة البحرية وتوسع نفوذ دول أوروبية بالتجارة البحرية، وفي تلك الفترة كلفت شركة الهند الشرقية "في أو سي" المستشار القانوني الهولندي هوغو غروسيوس، الذي كان يبلغ من العمر 21 عاما، بكتابة دفاع قانوني عن الأدميرال جاكوب فان هيمسكيرك بعدما استولى على سفينة برتغالية بالقرب من مضيق سنغافورة.
إعلان
وعام 1608 ألف كتابا تحت عنوان "مار ليبيروم" ومعناها باللاتينية "حرية البحار" دافع فيه عن تجار هولندا وحقهم في الوصول إلى المراكز التجارية، كما دعا إلى حق الدول والتجار في الإبحار بكل حرية ودون قيود.
ومن ثم بدأت دول مثل البرتغال وإسبانيا تسعى إلى السيطرة على ممرات تجارية بحرية مهمة، فكانت تلك الحادثة سببا في طرح غروسيوس مبدأ عالميا جديدا يقول إن البحار يجب أن تكون مفتوحة لجميع الشعوب دون سيطرة من أي دولة.
ومثل مبدأ غروسيوس نقطة تحول في تطور القانون البحري والقانون الدولي، وانتقل الفكر القانوني من تنظيم العلاقات داخل السفن إلى وضع قواعد تحكم استخدام البحار بين الدول.
مبدأ "مدى المدفع"
وفي القرن الـ18 برزت الحاجة إلى استخدام البحر في ظل اتساع حركة الملاحة، لكن لم تكن هناك قوانين دولية موحدة، فبدأت الدول تتفق ضمنيا وتطالب تدريجيا بحق "المياه الإقليمية". وقد أعلن عنها أول مرة في رسالة بعث بها وزير الخارجية الأميركي توماس جيفرسون في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1793.
وقال جيفرسون في تلك الرسالة إن البحر الإقليمي يمتد لمسافة تساوي ميلا بحريا واحدا أو 3 أميال من الشاطئ، وهو ما عرف آنذاك بـ"قاعدة قذيفة المدفع" أو "مبدأ مدى المدفع" وهو ما يعادل المدى الذي يمكن أن تصيبه المدافع المنصوبة على شواطئ الدول.
ومنذ ذلك الوقت بدأت الدول في المطالبة بحق "المياه الإقليمية" وظهر مبدأ "الأميال البحرية الثلاثة".
ومع بداية القرن الـ19، وانعقاد مؤتمر فيينا عام 1815 بعد نهاية حروب أوروبا بقيادة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابارت، سعت القوى الأوروبية لضمان حرية الحركة التجارية بالمحيطات، واعتبرتها شرطا أساسيا لاستقرار العلاقات الدولية.

كما شهد القرن الـ19 بداية إبرام اتفاقيات بحرية بين الدول، مثل اتفاقية تنظيم الصيد في بحر الشمال عام 1882 لتنظيم المرور البحري والصيد والضرائب والرسوم والموانئ.
ومع تطور التكنولوجيا -خاصة بعد مد الكابلات البحرية والبواخر البخارية- ازداد الضغط من أجل وجود قواعد بحرية واضحة تنظم الأنشطة التجارية.
وفي نهاية القرن نفسه بات من الضروري وجود قوانين شاملة وواضحة لتسهيل التعقيدات التي تواجهها الدول وتعرقل مصالحها البحرية. ورغم ذلك بقيت أغلب المبادئ التي اتُّفق عليها غير مكتوبة واعتمدت على التفاهمات والأعراف، إلى أن بدأ تقنين قواعد البحار بالقرن العشرين.
تطورات القرن العشرين
بدأت الجهود الدولية في تقنين قواعد البحار عندما عقدت عصبة الأمم مؤتمر لاهاي عام 1930، وكانت أول محاولة ملموسة لوضع قواعد قانونية واضحة حول استخدام البحار في العالم.
ورغم أن هذا المؤتمر لم ينجح في التوصل إلى اتفاق ملموس بشأن تحديد المياه الإقليمية، فإنه صاغ 13 مشروع مادة أسهمت في الأعمال اللاحقة.
ومع تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية (1939ـ1945) أنشئت لجنة القانون الدولي عام 1949، وتولت منذ تأسيسها مسؤولية مواصلة عملية تقنين وتطوير قواعد القانون البحري الدولي.
كما عينت الأمم المتحدة مقررا خاصا قدم تقارير حول مختلف جوانب قانون البحار، وشملت قضايا مثل الجرف القاري والمصائد البحرية وحماية الموارد البحرية.
إعلان
وبحلول عام 1956 أعدت اللجنة تقريرا نهائيا شاملا تضمن مشاريع مواد منظمة، غطت معظم عناصر قانون البحار ورفعته إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
واستنادا لذلك التقرير دعت الجمعية العامة إلى عقد المؤتمر الأممي الأول لصياغة قانون البحار، الذي انعقد بالعاصمة السويسرية الفترة ما بين 24 و27 أبريل/نيسان 1958 بموجب قرارها رقم 1105 المؤرخ في 21 فبراير/شباط 1957، وقد شهد مشاركة 86 دولة.
وقد بحث المؤتمر مختلف جوانب قانون البحار، مع مراعاة الأبعاد القانونية واللوجستية والبيولوجية والاقتصادية والسياسية. ورغم الجهود المبذولة لم ينجح المؤتمر في الحفاظ على وحدة قانون البحار ضمن اتفاقية واحدة شاملة.

لكنه توصل إلى 4 اتفاقيات منفصلة إضافة إلى بروتوكول اختياري، وهي:
اتفاقية البحر الإقليمي والمنطقة المتاخمة، ودخلت حيز التنفيذ في العاشر من سبتمبر/أيلول 1964. اتفاقية أعالي البحار، ودخلت حيز التنفيذ في 30 سبتمبر/أيلول 1962. اتفاقية صيد الأسماك وحفظ الموارد الحية في أعالي البحار، ودخلت حيز التنفيذ في 20 مارس/آذار 1966. اتفاقية الجرف القاري، ودخلت حيز التنفيذ في العاشر من يونيو/حزيران 1964. أما البروتوكول الاختياري المتعلق بتسوية النزاعات الدولية فقد بدأ العمل به منذ 30 سبتمبر/أيلول 1962.وفي فبراير/شباط 1962 انعقد مؤتمر جنيف الثاني بهدف التوصل إلى اتفاقية شاملة وموحدة لقانون البحار لكي تحل محل الاتفاقيات المنفصلة، لكنه فشل في ذلك بسبب الخلافات بين بعض الدول، خاصة التي تعلقت بالمياه الإقليمية وحقوق الملاحة.
اتفاقية 1982 الموحدة
وعام 1973 بدأ مؤتمر الأمم المتحدة الثالث لقانون البحار بمشاركة معظم الدول، واستمر التفاوض فيه 10 سنوات، وفي تلك الفترة تمكنت الدول المشاركة من التوصل إلى حلول وسط فيما يتعلق بالخلافات التي كانت تعيق التقدم بالمؤتمرات السابقة.
ونتيجة لهذه المفاوضات صيغت اتفاقية موحدة وشاملة عام 1982 بمدينة مونتيغو باي في جامايكا، تحددت فيها القوانين المعمول بها في البحار، ولم تدخل حيز التنفيذ إلا يوم 29 يوليو/تموز 1994.
وفي السابع من أكتوبر/تشرين الأول من السنة ذاتها، قدم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الاتفاقية ومرفقاتها إلى مجلس الشيوخ للموافقة عليها، ورغم عقد بعض جلسات الاستماع فإنه لم يتخذ أي إجراء بخصوصها.
الأهداف
حرصت المعاهدة على تحقيق مجموعة من الأهداف وهي:
تحديد المناطق البحرية مثل المياه الإقليمية والمنطقة المتاخمة والمنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري وأعالي البحار. تحديد الحقوق والواجبات للدول الساحلية وغير الساحلية. تنظيم استخدام البحار والمحيطات بشكل عادل وسلمي. تنظيم استغلال الموارد الموجودة في أعماق البحار. حماية البيئة البحرية.
التقسيم القانوني للبحار
قسمت الاتفاقية البحار والمحيطات حول العالم إلى مناطق بحرية محددة، ولكل منها إطار قانوني ينظم استخدام الفضاء البحري، أبرزها:
1 ـ المياه الداخلية
وهي تلك المساحات المائية القريبة من شواطئ الدولة أو الملتصقة بها، والتي تبدأ من اليابسة وتنتهي عند خط الأساس، وتعد جزءا لا يتجزأ من إقليم الدولة، وتخضع إلى سلطاتها الإدارية والتشريعية والقضائية.
كما أنه لا يحق للسفن الأجنبية دخول المياه الداخلية إلا بعد الحصول على موافقة الدولة الساحلية، وفق ما ورد بالفقرة الأولى من المادة الثامنة من اتفاقية الأمم المتحدة.
وتشمل المياه الداخلية 3 مناطق، وهي مصاب الأنهار والخلجان والموانئ:
الخلجانالخليج هو ذلك الجزء من البحر الذي يمتد إلى داخل اليابسة بسبب تعرجات طبيعية في الساحل، ومع ذلك لا يعد كل انعراج أو انبعاج خليجا تدخل مياهه ضمن المياه الداخلية للدولة.
فمن وجهة نظر القانون الدولي للبحار لا يعتبر الخليج مياها داخلية إلا إذا توفر فيه شرطان أساسيان نصت عليهما المادة العاشرة من الاتفاقية الأممية لعام 1982 وهما:
إعلان
المساحة: إذا كانت مساحته تعادل أو تفوق مساحة نصف دائرة، قطرها هو الخط الذي يرسم عبر مدخل ذلك الانبعاج، وبذلك تعد المساحة شرطا أساسيا لاعتبار الانبعاج خليجا تنطبق عليه أحكام الاتفاقية.
الشكل: يجب أن يكون الانبعاج في الساحل واضحا وليس مجرد انحناء بسيط، ويجب أن تحيط به اليابسة من أغلب الجهات، وإذا تحقق هذان الشرطان فبإمكان الدولة أن تعتبر جميع المياه الواقعة داخل مدخل الخليج مياها داخلية وتخضع لسيادتها الكاملة.
مصاب الأنهارفي حال كان هناك نهر يصب في البحر أو المحيط بشكل مباشر، فإن المادة التاسعة من الاتفاقية تنص على أن يكون خط الأساس يرسم بشكل مستقيم عبر فتحة مصب النهر.
وهذا يعني أن المياه الداخلية للدولة الساحلية لا تنتهي عند الخط المستقيم الرابط بين نقطتين على اليابسة عند مصب النهر بالبحر فقط، بل تمتد إلى الخط المستقيم الذي يربط بين نقطتين لأدنى الجزر الموجودة على ضفتي النهر.
الموانئوهي المنشآت التي تقيمها الدولة على شواطئها، وتمدها بالأجهزة والأدوات وتوفر لها طاقما لتشغيلها من أجل استقبال السفن لتحميلها وتفريغها أو إجراء أعمال الصيانة أو لأغراض أخرى.
2 ـ المياه الإقليمية
حدد القانون الدولي للبحار المياه الإقليمية للدولة بـ12 ميلا بحريا بعد خط الأساس، وتعرف في العلاقات الدولية تحت اسم "البحر الإقليمي".
وفي هذه المنطقة تتمتع الدولة الساحلية بسيادة كاملة تشمل سطح البحر الإقليمي والفضاء الجوي فوقها وقاع البحر والتربة تحتها.
ويسمح للسفن الأجنبية بالمرور في البحر الإقليمي، شرط أن يكون هذا المرور بريئا وغير معاد.
3 ـ المياه المتاخمة
نصت المعاهدة على أنه باستطاعة كل دولة ساحلية أن تعلن عن منطقة متاخمة تكون متلاصقة لبحرها الإقليمي، وتمتد مسافة 24 ميلا بحريا من الخطوط الأساسية التي يقاس منها البحر الإقليمي.

4 ـ المنطقة الاقتصادية الخالصة
تتسع هذه المنطقة إلى 200 ميل بحري ابتداء من خط الأساس، وقد نصت اتفاقية جامايكا لعام 1982 أن كلا من البحر الإقليمي والمنطقة المتاخمة والمنطقة الاقتصادية تدخل ضمن الـ200 ميل بحري المخصصة للمنطقة الاقتصادية الخالصة.
وفي هذه المنطقة الخالصة تتمتع الدول سواء كانت ساحلية أو غير ساحلية بحرية الملاحة والتحليق ووضع الكابلات وخطوط الأنابيب المغمورة، ولها الحق في تشغيل السفن والطائرات والكابلات.
ويجب أن تولي الدول اهتماما وتمتثل للقوانين والأنظمة التي تعتمدها الدولة الساحلية وفقا للاتفاقية.
5 ـ الجرف القاري
وهو منطقة قاع البحر والتربة التي تمتد خارج حدود البحر الإقليمي، وتمتد بشكل طبيعي من اليابسة حتى الحافة الخارجية للجرف القاري، أو حتى مسافة 200 ميل بحري من الخطوط الأساسية للدولة.
وإذا امتدت الحافة الخارجية للجرف القاري لأبعد من 200 ميل بحري من الخطوط الأساسية، يتم تحديد الحدود الخارجية للجرف القاري وفقا للمادة 76 من اتفاقية قانون البحار.
أما الجزء الذي يقع خارج حد الـ200 ميل المحددة فيسمى غالبا الجرف القاري الممتد.
وتتمتع الدولة الساحلية بحقوق سيادية على الجرف القاري، كما أنها من حقها استكشافه واستغلال موارده الطبيعية والمتمثلة في المعادن والمواد غير الحية الموجودة بقاع البحر وتحت التربة، وكذلك الاستفادة من الكائنات الحية التي تعيش فيه.
6 ـ أعالي البحار
وتعرف أيضا في العلاقات الدولية بـ"المياه الدولية" وغالبا ما يستعمل هذا المصطلح للإشارة للمياه التي تقع خارج سلطة أي دولة.
الشرعية القانونية
تخضع الاتفاقية بشكل مباشر للمحكمة الدولية لقانون البحار، وهي هيئة قضائية دولية مستقلة أنشئت بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، وبدأت عملها رسميا عام 1996.
ويقع مقر المحكمة بمدينة هامبورغ بألمانيا، وهي مختصة بالنظر في النزاعات القانونية المتعلقة بتفسير وتطبيق الاتفاقية بين الدول، مثل الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية وحقوق الملاحة واستغلال الموارد الطبيعية بالمناطق البحرية، واحتجاز السفن.
كما توفر هذه المحكمة آلية قانونية سلمية لتسوية النزاعات، مما يعزز الاستقرار ويضمن احترام قواعد القانون الدولي في البحار والمحيطات.
0 تعليق