هل يمكن لنا أن نصف ما كتبه ابن بطوطة بالواقعية السحرية أم هو كذب أبيض؟ كما وصف ذلك الكاتب الروائي المغربي بنسالم حميش في صدد حديثه عن ابن بطوطة حيث يقول «لربما ثمة في الرحلة عناصر كذب (أبيض) وتخيل وحتى غفول مبثوثة في ثنايا النص». ويعتقد الكثير من الدارسين والمؤرخين على نطاق واسع بأن الخيال والشطح كان لهما نصيب في ذلك.
يذكر أن ابن بطوطة انطلق في عام 1325م من القرن الرابع عشر الميلادي من مدينته طنجة في الشمال المغربي في رحلة تعددت مقاصدها بين الحج وبين الاستطلاع والاستكشاف، وقضى ثلاثين عامًا يجوب المدن ومجالسة السلاطين، حيث عاد إلى المغرب في عام 1355م. وأخذ يروي مشاهداته وحكاياته للسلطان المغربي أبي عنان المريني، فأمر السلطان المريني الكاتب الأندلسي أبو عبدالله محمد ابن الجوزي بتدوين تلك الرحلة، فسجّل في كتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) رحلاته ومشاهداته وانطباعاته وحكاياته عن تلك البقاع التي زارها وعن الأشخاص الذين جالسهم وخصوصًا الحكام والسلاطين، إلا أن الكثير من الأحداث والمشاهدات والحكايات لا تخلو من الطرافة والعجائبية والغرائبية مما قد يدخل القارئ من الوهلة الأولى في الشك وعدم اليقين والحيرة وعدم مصداقية ذلك، ومدى ملاءمة ما كتبه مع الواقعية.
أتذكر مرة كنت أقرأ ما كتبه ابن بطوطة عن نزوى وكلامه عن السلطان النبهاني وكان ذلك أمام شخص كبير في السن وكان أعمى قال لي مباشرة بعد أن أنهيت القراءة يا ولدي ليس كل ما يكتب صحيح ويصدق. يحيلني ذلك الكلام إلى كلام آخر قرأته عن ابن بطوطة أيضًا وهو «أنه عندما كان يروي قصصًا كثيرة في بلاط السلطان (السلطان المغربي أبي عنان) كان الناس تهمس لا بد أنه يكذب»، ذلك الكلام ذكره الباحث الألماني رالف إلغر الذي ترجم كتاب ابن بطوطة إلى الألمانية ويبدو أنه نقله بشكل أو بآخر عن ابن خلدون.
الكثير من الدارسين والمؤرخين كانت تراودهم الشكوك وعدم اليقين فيما كتبه ابن بطوطة. حدت بالكثير منهم التكلم عن الغرائبية ومدى المصداقية، إذ اهتموا به ووضعوه تحت المجهر أو على (ميزان من ذهب) كما يقال وانبرى الكثير منهم لتفنيد حكاياته التي وصمت وكأنها خيالية وتثير الاستغراب والدهشة.
كتب ابن بطوطة كتابه بما يشبه الأسلوب الحكاية والرواية والقصص ولعل ذلك كان واضحًا في كثير من تلك الحكايات التي ذكرها، لذلك كان للكتاب نصيب من تسميته بالغرائب والعجائب، وهو ما جعل ابن خلدون المعاصر لابن بطوطة أن يتكلم كلامًا هو أقرب إلى النقد المبطن وكلامًا ينم عن الشكوك وعدم اليقين عما كتبه ابن بطوطة في رحلاته تلك، إذ كتب ابن خلدون يقول ورد إلى المغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة وكان يحدث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض وأمثال هذه الحكايات فتناجى الناس إلى بتكذيبه»، وقال، ولقيت وزير السلطان فارس بن ودرار البعيد الصيت ففاوضته في هذا الشأن ورأيته ينكر أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه».
نزعته الغرائبية والاستغراب تبدو واضحة في الكتاب منها مثلًا حديثه عن النساء ذوات الثدي الواحد في جزر ذيبة المهل (المالديف) ومملكة النساء في المالديف وطائر الرخ العظيم بحجم الجبل الذي شاهده في طريق عودته بحرًا من الصين إلى جاوة، والرجل الشبيه وجهه بوجه كلب، وحكاية سلطان دلهي الهندية.
من الحكايات المثيرة للاهتمام هو رحلة ابن بطوطة إلى عُمان وزيارته الحواضر العُمانية، وكان ذلك إبان حكم الدولة النبهانية وبالتحديد في عام 1331م، وخلال تلك الزيارة كتب عن ظفار ومصيرة وقلهات واصفًا الكثير مما راءه وشاهده. لكن غرائبيته تتجلى عند زيارته لمدينة نزوى حاضرة عُمان وكان ذلك في زمن الدولة النبهانية حيث قابل ابن بطوطة السلطان. إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال الجزم بأن ما قاله ابن بطوطة عن أكل أهل نزوى الحمر الأنسية وحكاية السلطان مع الفتاة التي أغواها الشيطان فقال لها السلطان اذهبي واطردي الشيطان فإنك في حمايتي، ويظهر فيه أن السلطان النبهاني حسب ما يستشف من كلام ابن بطوطة وكأنه حاميًا للفساد والموبقات، وهو ما يصيب القارئ بالذهول والاستغراب بل الاشمئزاز. ذلك الكلام أثار جدلًا كبيرًا وما زال ذلك قائمًا بين الدارسين، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال الجزم بأن تلك الوقائع حقيقية ووقعت فعلًا، فللمنطق العقلي شيء من التوازن إضافة إلى أن جُل الكتب والسير والتاريخ تخلو من ذكر تلك الوقائع والعادات.
يحيلنا ذلك أيضًا إلى ما ذكره المؤرخ المغربي إبراهيم القادري بوتشيش الذي أورد في كتابه (التواصل الحضاري بين عُمان وبلاد المغرب، دراسات في مجالات الثقافة والتجارة والمجتمع). حكاية ابن بطوطة في نزوى ويتساءل الكاتب في كتابه هل يدخل ذلك في نزعة ابن بطوطة نحو اقتناص كل ما يدخل في خانة العجائبي والغرائبي في أي بلد زاره، باعتبار أن الرحالة المغربي يعقد انطلاقًا من عنوان كتابه «تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» ميثاقًا مع القارئ لمتحفه بكل عجيب وغريب في رحلته.
لكن ما الذي دعا ابن بطوطة ليضيف لمسة من الخيال والغرائبية في نصه؟ المترجم الألماني إلغر أراد تبديد تلك الشكوك ويزيح تلك التهمة عن ابن بطوطة، ويعتقد بأن ابن الجوزي (الكاتب للكتاب) لربما قد أضاف شيئًا من القصص إلى الكتاب بهدف التشويق وسهولة التواصل مع القراء، أو نقلًا عن بلاد زارها ابن الجوزي، وربما قد وضع النص بناء على ملاحظاته معتمدًا على ذائقته الأدبية والجغرافية أو ربما استفاد من نص الرحالة الإيطالي ماركو بولو. ويعتقد إلغر أيضًا أن نص ابن بطوطة متشابه مع ما كتبه السندباد، لكن يميل الكثير من القراء إلى تصديق مغامرات ابن بطوطة ويعتبرونها واقعًا بينما يضعون مغامرات السندباد في خانة القصص الأسطورية.
ابن بطوطة الذي ترك لنا ذلك الكتاب وهو بحق كنز معرفي وثقافي وجغرافي وتحفة أدبية خالدة، فتح عيون الناس على الكثير من الحكايات والدول والسلاطين والمغامرات، وأن تلك الحكايات الغريبة والعجيبة التي أوردها لا تقلل من أهمية النص، كيف لا وهو الذي أورده وعرض صورًا رائعة وتفاصيل دقيقة وساحرة لكل المناطق التي زارها في القرن الرابع عشر الهجري، ووصف فيها مغامراته بسرد بديع ورائع في فن السيّر والرحلات، نص ربما سابق لأوانه وعصره. ويبقى ابن بطوطة من الرجال الاستثنائيين العباقرة، تميز بعبقرية وذكاء وتفكير حاذق. ولا أحد ينكر بأن كتاب التحفة بقي على مر العصور من الكتب الخالدة ومرجعًا وكتابًا شيقًا لا يستغنى عنه.
د. بدر الشيدي قاص وكاتب عُماني
0 تعليق