عاجل

كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل الهندسة الاجتماعية؟ - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

شكَّل الذكاء الاصطناعي تحوّلا جذريا في مفهوم الهندسة الاجتماعية، إذ نقلها من كونها ممارسة فردية تعتمد على الحنكة، ومهارة الإقناع، واستغلال الثغرات النفسية، إلى صناعة هجومية مؤتمتة ذات طابع منظّم، وقابلية للتوسع على نطاق غير مسبوق.

لم تعد المسألة مقتصرة على رسائل تصيّد بدائية يمكن تمييزها بسهولة، بل أصبحنا أمام جيل جديد من الهجمات القادرة على إنتاج محتوى مُقنع ومُفصّل بدقة لكل ضحية على حدة، مستندة إلى تحليل معمّق لبياناتها الشخصية، سجلّاتها الرقمية، وسلوكها النفسي على المنصات الاجتماعية ومحركات البحث.

التخصيص الذكي
يتميّز هذا التحوّل بخاصية التخصيص الذكي Intelligent Personalization، حيث تستطيع الأنظمة المدعومة بالتعلّم العميق تحليل كمّ هائل من البيانات السلوكية والنفسية للضحايا، بما في ذلك سجلّ التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، أنماط الشراء، وتفضيلات المحتوى، لتوليد رسائل وصور ومقاطع صوتية وفيديوهات مُصمّمة خصيصا للتأثير على دوافع الضحية ونقاط ضعفها العاطفية وحتى توقيت استجابتها.

أصبحنا أمام جيل جديد من الهجمات القادرة على إنتاج محتوى مُقنع ومُفصّل بدقة لكل ضحية على حدة (شترستوك)

 

هذا التخصيص لا يرفع فقط احتمالية نجاح الهجمات، بل يحوّلها إلى عمليات استهداف دقيقة تشبه حملات تسويق متقدمة لكن بنوايا خبيثة، حيث يتم اختبار الرسائل على نطاق واسع ثم تحسينها في الزمن الحقيقي لتحقيق أقصى تأثير، لكن الأخطر أن هذه الأنظمة تمتلك قدرة على التعلّم التكيفي، إذ تستفيد من كل تفاعل -سواء كان استجابة ناجحة أو مقاومة- لتعديل خوارزمياتها وتحسين أساليب الإقناع بشكل تراكمي، ما يجعلها أكثر إتقانا ودهاء مع مرور الوقت، وبهذه الطريقة تتحول الهجمات إلى عملية ديناميكية متواصلة، تشبه سباق تسلح رقمي يتطور مع كل محاولة، ويجعل من الصعب على الأفراد أو المؤسسات مجاراة سرعة التكيف التي تتمتع بها هذه الأنظمة.

يستطيع الذكاء الاصطناعي استنباط الحالة العاطفية للضحية وتوليد رسائل تستثير الخوف أو الإلحاح أو الفضول في اللحظة الحرجة، بما يقلّص مساحة التفكير العقلاني ويزيد من فرص الانقياد للهجوم

بواسطة الجزيرة نت

لقد تحوّلت الهندسة الاجتماعية، بفضل الذكاء الاصطناعي، إلى بيئة هجومية ديناميكية تستغل علم النفس السلوكي وعلم البيانات الضخمة معا، لتصنع واقعا جديدا من الحرب الإدراكية Cognitive Warfare، حيث يتم استهداف العقل البشري مباشرة، وإعادة تشكيل قراراته وخياراته دون وعي منه، وهذا يفتح الباب أمام تهديدات تتجاوز السرقة المالية أو اختراق الحسابات، لتصل إلى التأثير على الرأي العام، التلاعب بالانتخابات، وإثارة الأزمات الاجتماعية، بكلمات أخرى، نحن أمام عصر لم يعد فيه أمن المعلومات قضية تقنية فحسب، بل قضية أمن وطني ومجتمعي، تتطلب إستراتيجيات دفاعية جديدة تدمج التكنولوجيا بالتربية الرقمية والتوعية النفسية.

إعلان

" frameborder="0">

 

كما أضاف الذكاء الاصطناعي بعدا منهجيا متقدما للهندسة الاجتماعية عبر جميع مراحل الهجوم السيبراني، ففي مرحلة الاستطلاع، لم يعد المهاجم بحاجة إلى جهد يدوي لجمع معلومات عن الهدف، إذ تقوم الخوارزميات بتمشيط منصات التواصل الاجتماعي وقواعد البيانات العامة لاستخلاص أنماط الاهتمامات والعلاقات والسلوك الرقمي، وفي مرحلة الاستهداف، يتم توليد رسائل أو محتوى مزيف يراعي شخصية الضحية ونبرة تواصلها المعتادة، ما يقلل من احتمالية الشك.

أما مرحلة التنفيذ فتشهد سرعة غير مسبوقة، حيث يمكن إرسال آلاف الرسائل أو إجراء مئات المكالمات الصوتية المزيفة في وقت قصير، مع القدرة على تعديل التكتيكات فورا بناء على استجابات الضحايا، وحتى بعد التنفيذ، تحتفظ الأنظمة الذكية بسجلات تفصيلية لتحليل الأداء وتحسين الحملات المستقبلية، ما يجعلها أقرب إلى مختبرات تعلم مستمر تديرها الخوارزميات.

البعد النفسي:
ويكمن الخطر الأكبر في البعد النفسي لهذه الهجمات، إذ يستطيع الذكاء الاصطناعي استنباط الحالة العاطفية للضحية وتوليد رسائل تستثير الخوف أو الإلحاح أو الفضول في اللحظة الحرجة، بما يقلّص مساحة التفكير العقلاني ويزيد من فرص الانقياد للهجوم، ومع صعود تقنيات التزييف العميق، بات بالإمكان إنتاج مقاطع صوتية ومرئية تحاكي شخصيات حقيقية، ما يجعل الخداع أكثر إقناعا ويعقّد مهمة التحقق حتى على الفرق الأمنية المدربة، وهكذا تتحول المعركة من مواجهة تقنية إلى صراع على الوعي والإدراك، حيث يصبح الإنسان ذاته هدفا للهجوم وأداة لتنفيذه في الوقت نفسه. هذا التحول يفرض على المؤسسات أن تتعامل مع الأمن السيبراني ليس بوصفه قضية تقنية فحسب، بل باعتباره تحديا سلوكيا ونفسيا يستدعي تعزيز وعي العاملين وإكسابهم مهارات التفكير النقدي.

ولا تقتصر تداعيات هذه الهجمات على الأفراد، بل تمتد إلى البنى التحتية الحيوية التي تعتمد على العنصر البشري كحلقة وصل أساسية، خطأ واحد من موظف غير مدرّب قد يؤدي إلى تعطيل أنظمة طاقة أو العبث بشبكات النقل أو تهديد بيانات صحية حساسة، وهو ما ينعكس مباشرة على الاقتصاد والأمن القومي والاستقرار الاجتماعي، ولهذا تغدو الحوكمة الأمنية مسؤولية إستراتيجية شاملة، تبدأ بصياغة سياسات واضحة ومحدثة، وتستمر ببناء ثقافة أمنية راسخة، وتوفير برامج تدريب ومحاكاة منتظمة للعاملين، وتبني أنظمة رصد وتحليل سلوكيات قادرة على كشف أي نشاط شاذ قبل أن يتحول إلى خرق واسع النطاق.

لم يعد تصاعد هذه الهجمات مجرد تهديد تقني محدود، بل تحوّل إلى عامل زعزعة شامل يهدد البنية التحتية للثقة الرقمية التي يقوم عليها التحول الرقمي والابتكار في القطاعات الحيوية مثل المال والصحة والطاقة والحكومة الإلكترونية

بواسطة الجزيرة نت

وفي مواجهة هذا التصعيد النوعي، لم تعد الدفاعات التقليدية كافية، أصبح تبنّي نموذج "الثقة الصفرية" ضرورة إستراتيجية لا يمكن تأجيلها، وهو نموذج يقوم على افتراض أن كل محاولة وصول قد تمثل تهديدا محتملا حتى يثبت العكس، يعتمد هذا النهج على التحقق المستمر من الهوية والسياق، وتقييد الصلاحيات إلى الحد الأدنى الممكن، ومراقبة السلوك حتى بعد منح الوصول، كما أصبح الاعتماد على الذكاء الاصطناعي الدفاعي جزءا لا يتجزأ من إستراتيجيات الحماية الحديثة، لتحليل الأنماط ورصد الشذوذ والتنبؤ بالهجمات قبل وقوعها، لكن المعركة تبقى مفتوحة، فكلما تطورت أدوات الحماية، طوّر المهاجمون بدورهم أساليب التفاف جديدة، في سباق تسلح مستمر يفرض مراجعة دورية للسياسات والتقنيات وتحديثها بوتيرة عالية.

إعلان

عامل زعزعة
على المستوى الإستراتيجي الأوسع، لم يعد تصاعد هذه الهجمات مجرد تهديد تقني محدود، بل تحوّل إلى عامل زعزعة شامل يهدد البنية التحتية للثقة الرقمية التي يقوم عليها التحول الرقمي والابتكار في القطاعات الحيوية مثل المال والصحة والطاقة والحكومة الإلكترونية، فالثقة الرقمية هي العمود الفقري للاقتصادات الحديثة، وأي اهتزاز فيها ينعكس على الاستثمار والأسواق المالية واستقرار الخدمات الذكية، هذا الواقع يضع الدول أمام معضلة تشريعية وتنظيمية معقدة، إذ يتعين عليها تحقيق توازن دقيق بين تعزيز الأمن السيبراني وحماية الحقوق الأساسية مثل الخصوصية وحرية التعبير، مع تطوير أطر قانونية قادرة على مواجهة التزييف العميق والانتحال الرقمي والجرائم العابرة للحدود.

أصبح الاعتماد على الذكاء الاصطناعي الدفاعي جزءا لا يتجزأ من استراتيجيات الحماية الحديثة، لتحليل الأنماط ورصد الشذوذ والتنبؤ بالهجمات قبل وقوعها (شترستوك)

ومع تطور قدرات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة والتعلّم التنبؤي، ستزداد هذه الهجمات تعقيداً ودقة، ما يستدعي انتقال الدول إلى نهج ردع شامل يقوم على تعاون غير مسبوق بين القطاعين العام والخاص، وتفعيل قنوات استخبارات سيبرانية قادرة على رصد الحملات قبل تنفيذها، وبناء شبكات إنذار مبكر ومنصات محاكاة للهجمات لتعزيز الجاهزية، إلى جانب إدماج التربية الرقمية في التعليم لرفع مناعة المجتمع ضد أساليب الهندسة الاجتماعية والتضليل.

تأسيسا على ما تقدم، لم تعد مواجهة تهديدات الهندسة الاجتماعية المعززة بالذكاء الاصطناعي مجرد تحدٍّ تقني، بل تحوّلت إلى معضلة إستراتيجية شاملة تمسّ صميم الأمن الوطني والاستقرار المجتمعي، فالتصدي الفعّال لهذه التهديدات يتطلّب نهجا متكاملا يجمع بين تطوير البنى التحتية التكنولوجية المتقدمة، ووضع سياسات أمنية مرنة وقابلة للتطور، وبناء وعي مجتمعي راسخ يقاوم محاولات التلاعب والخداع.

كما يفرض هذا المشهد ضرورة تعاون غير مسبوق على المستويين الوطني والدولي، وتبادل المعرفة والخبرات، واستباق التطوّرات التقنية من خلال البحث المستمر والابتكار في آليات الحماية. فبدون هذا النهج الشامل، ستظلّ الفجوة بين قدرات المهاجمين والمدافعين تتسع، مما يهدد بانهيار الثقة الرقمية التي تُعدّ حجر الأساس لعالم أكثر رقمنة وترابطا.

0 تعليق