"لقد أحضرت لكِ يداً مقطوعة": تفكيك شعري لجرح الوجود! - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

كتب يوسف الشايب:

 

في مجموعته الصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، "لقد أحضرت لكِ يداً مقطوعة"، لا يقدّم الشاعر الفلسطيني-السوري غياث المدهون مجرّد نصوص، بقدر ما يقدّم تشريحاً دقيقاً ومؤلماً للذات المنشطرة في عالم ما بعد الحرب واللجوء.
العنوان نفسه، الصادم والمباشر، عتبة نصّية تلخّص مشروع هذه الكتابة الجديدة بأكملها: هديّة الشاعر ليست وردة أو قصيدة غزلية، بل جزء مبتور من الجسد، قطعة من الفجيعة، دليل مادي على الخراب، لذا فمجموعة النصوص والهوامش هنا تشكّل شهادة جريئة، تمتزج فيها السيرة الذاتية بالتاريخ الجماعي، والحب بالصدمة، والواقع بالسوريالية القاتمة.
وتتشابك في نصوص المدهون عدّة محاور رئيسية تشكل العمود الفقري للمجمع، بينها" الحرب كجرح لا يندمل"، فالحرب لدى المدهون ليست محض حدث تاريخي انتهى، إنّما حالة وجودية مستمرة.. إنها "تتساقط داخل رأسه" حتى بعد انتهائها رسمياً.
يستخدم الشاعر صوراً مروّعة لتجسيد هذه الاستمرارية، حيث تتحول الفاجعة إلى مادة يومية، فيكتب: "حين يُولد النَّاس في عالم ابن عاهرة/ يتحول الزمن إلى آلة كاتبة/ والقتلى إلى قصائد". هذا التحوّل ليس تطهيراً للفاجعة، بل تكريس لها كحقيقة وحيدة باقية.
وتصل هذه الرؤية ذروتها في أنسنة الحرب نفسها بصورة سوريالية مرعبة، فتصبح "أمّاً حنوناً" تتفقد نوم الضحايا وتغطيهم بالأنقاض "لكيلا يصابوا بالبرد".
ويمكن عنونة المحور التالي في المجموعة بـ"الغربة ونقد المركزية الأوروبية"، بحيث تمثل أوروبا، وتحديداً برلين وستوكهولم، مسرحاً للجوء والمنفى، لكنها ليست الخلاص، وهنا ينسج المدهون علاقة مركبة معها، حب وكراهية في آن واحد.
في نصّه البارز "نشيد الحزن"، الذي جاء كإعادة كتابة ساخرة لـ "نشيد الفرح" الأوروبي، يطلق صرخة احتجاج طويلة، فيقول: "نُحبُّ فنَّكِ ونكره تاريخك الاستعماري، نُحب مسرحك ونکره معسكرات اعتقالكِ... نكره عنصريتك ومعاييرك المزدوجة ونظرتك الاستعلائية وتاريخك الدموي".
هنا، يرى المدهون التناقض الصارخ بين قيم الحرية التي تدّعيها أوروبا وماضيها الاستعماري وحاضرها الذي لا يخلو من العنصرية، فحتى الأمان الأوروبي هش ومنقوص، ففي ستوكهولم، "المدينة المُعَدَّة للنياندرتال"، يصبح الأمل سلعة رخيصة تُشترى بورقة يانصيب أسبوعية.
وفي محور ثالث يبرز "الحب كفعل مقاومة في عالم محطم"، فالحب في عالم المدهون النصّي هذا ليس ملاذاً رومانسياً بعيداً عن الخراب، بل متشابك معه بعمق، فالحبيبة هي الشاهد على الجرح ومحاولة ترميمه في آن..
تتداخل صور الحب مع صور الحرب بشكل عنيف ومفارق، كما في قوله: "كيف يمكن أن أقول في قصيدة واحدة: قُتل أصدقائي تحت التعذيب/ وأنت أجمل من نيويورك، دون أن يضحك لوركا في قبره؟".
الحب هنا يصبح فعلاً "بربرياً" بعد أوشفيتز وسورية، وهو محاولة يائسة لإيجاد معنى في عالم فقد معناه، حيث أنّ الإهداء الأبرز إحضار "يد مقطوعة"، و"مقبرة جماعية، كي تتعرفي إلى أصدقاء جدد".. إنها دعوة للآخر كي يشارك في حمل عبء الذاكرة والجرح.
ولم تكن الهوامش والنصوص الموازية في مجموعة غياث المدهون إضافات ثانوية، إنما كانت نصوصاً موازية تعمل كفضاء للتفكير والتأمل، وتفتح محاور إضافية تثري النص الشعري وتُعمّق دلالاته.
فتارة عمل المدهون على استخدام الهامش كأرشيف مصغّر يرسّخ القصيدة في واقع تاريخي ملموس، ويخلق مقارنات صادمة بين الماضي والحاضر، ما حوّله إلى دليل إدانة تاريخي.. والمثال الأبرز هنا، في قصيدة "إيفيان"، حيث يرد في الهامش الأول كلمات عنصرية حادة ضد اللاجئين، ويكشف في الهامش الثاني أن هذا الخطاب لم يكن موجهاً للسوريين، بل "استعملت على نطاق واسع من قبل وسائل الإعلام الغربية لوصف اللاجئين اليهود من ألمانيا والنمسا" قبل الحرب العالمية الثانية، وهذا الكشف يصنع صدمة لدى القارئ ويؤكد على تكرار التاريخ في عنصريته، ويستكمل ذلك في الهامش الثالث بشرح حول مؤتمر إيفيان عام 1938، حيث رفضت 32 دولة استقبال اللاجئين اليهود، ما مهد الطريق للهولوكوست، ويربط بذلك، بشكل مباشر، بين أزمة اللاجئين السوريين ومأساة اليهود، مُدينًا الصمت العالمي المتكرر.

وشكل الهامش في نصوص المجموعة فضاء للتراجيكوميديا السوداء، أو منصة لإلقاء "نكات" فلسفية سوداء، تلخص عبثية الموقف وتعمل كمتنفس ساخر من الألم العميق في النص الأساسي.
ومن بين الأمثلة، على ذلك ما أسماه بـ"هامش تراجيكوميدي": "بما إنَّ الجميع سوف يموتُ في النهاية، فإنَّ نسبة الموت في سورية والسويد واحدة".. هذه "التسوية" الحسابية بين بلد آمن وآخر تمزقه الحرب قمة الكوميديا السوداء التي تكشف عن لا جدوى الأرقام أمام حتمية الموت.
وكذلك ما وصفه بـ"هامش كوميدي: "تكمن عبقرية دانتي في الليمبو، تأملها قليلاً، وستدرك فوراً أنا نعيش في أولى طبقات الجحيم".. هنا، يستخدم مرجعية أدبية عالمية (الكوميديا الإلهية) كتشخيص ساخر للواقع المعاصر، علاوة على "هامش لاس فيغاس": حين تقول له موظفة الكازينو "ما يحدث في فيغاس يبقى في فيغاس"، ليرد بسؤال وجودي: "وماذا عمّا يحدث في سورية؟".. هذا الهامش يضع ترف العالم الأول ولامبالاته في مواجهة مباشرة مع مأساة لا يمكن احتواؤها.
وتتحول بعض الهوامش إلى شذرات أو أقوال مأثورة تختزل رؤية الشاعر الفلسفية للعالم، مقدمةً تعريفات موجزة ومبتكرة لمفاهيم كبرى مثل الأمل والنسيان والحرب، ففي نص واحد موجز، يقدم تعريفاً فلسفياً عميقاً: "النسيان هو ألا تتذكر الأمل هو أن تتذكر أشياء لم تحدث"، وفي هامش حول تسمية الحروب، يلاحظ أن "الحرب في فيتنام بالحرب الفيتنامية... وهي جميعها حروب أميركية"، وفيه نقد مباشر للغة التي يستخدمها المنتصر لتسمية الأشياء وإخفاء مسؤوليته، وغيره من الهوامش كما في "نقد الصحة النفسية العالمية": "ليست مشكلة هذا العالم أنَّ رُبعَ سُكَّانه يذهبون إلى عيادات الأطباء النفسيين، المشكلة أنَّ الباقين لا يذهبون"، وهنا يصبح الهامش تشخيصاً للحالة النفسية للكوكب بأكمله.
في بعض الأحيان، يصبح الميتا-نص مساحة يتأمل فيها الشاعر فعل الكتابة نفسه، وحدود اللغة، والعلاقة بين الحقيقة والمجاز في عالم فقد منطقه، كما في افتتاحية "شاعر في برلين"، حيث "المجازات الواردة في هذه القصيدة مقتبسة من أحداث حقيقية لم تحدث من قبل"، وهذا التناقض الظاهري تعليق ذكي على طبيعة الشِعر، الذي يصنع حقيقته الخاصة من واقع متخيل أو من واقع لا يمكن تصديقه، أو ما يتعلق بشرح أصل القصيدة، ففي "نشيد الحزن"، يوضح الهامش أن النص كُتب بطلب من مهرجان أدبي "لإعادة كتابة النشيد الوطني للاتحاد الأوروبي"، وهذه "المعلومة" تحول القصيدة من هجاء إلى فعل سياسي وفني مقصود ومباشر.
ومن كل ما سبق يمكن القول أن الهامش جعل من المجموعة نصّاً متعدد الطبقات، حيث القصيدة والهامش يدخلان في حوار مستمر، فالهامش لا يفسّر القصيدة فقط، بل يتحدى القارئ ويورطه في عملية التفكير والتأويل.
ما يميز تجربة غياث المدهون أيضاً، ليس فقط قوة المضامين، بل الأدوات الفنية المبتكرة التي يستخدمها لتفكيك الواقع وإعادة بنائه شعرياً، سواء عبر لجوئه إلى السوريالية ليس كحلية جمالية، إنّما كأداة ضرورية لوصف واقع تجاوز المنطق.. "توفي قارب محمل باللاجئين بسكتة قلبية" ، أو "رأيتُ غزالةً تفترس ذئباً"، أو "لدغتني الفراشة الموشومة على جِلْدِكِ"، وهذه الصور العبثية هي الطريقة الوحيدة للتعبير عن عالم انقلبت فيه المسلّمات، حيث أصبح الموت أكثر حياةً من الحياة نفسها.
ويستدعي المدهون إرثاً ثقافياً ودينياً وتاريخياً واسعاً، من المتنبي وأبي تمام والقرآن، إلى دانتي، وهتلر، وجاك دريدا، وبول سيلان، وهذا التناص لا يهدف إلى استعراض معرفي، بل إلى وضع تجربته الشخصية في سياق إنساني وتاريخي أوسع، ليقول إن جرحه امتداد لجروح التاريخ الكبرى، بالإضافة إلى استخدام "الهوامش" بشكل مكثف ومبتكر.
ويكمن تفرّد "لقد أحضرت لكِ يداً مقطوعة" في قدرته على المزج بين الغنائية الذاتية الحارقة والنقد السياسي والفكري الحاد، كل ذلك في قالب فني يجمع بين قصيدة النثر والشذرة الفلسفية واليوميات الممزقة.
غياث المدهون لا يكتب ليرثي وطناً مفقوداً أو ليبكي على أطلال ذاته، بل ليقوم بعملية تشريح قاسية للغة والذاكرة والأمل نفسه.. إنه يفكك الأمل ليعرف مكوناته، فيجده "قمراً شاحباً ظهر فوق دمشق"، ثم يعيد تركيبه في صيغة أكثر تعقيداً ويأساً: "أعتقد أن هنالك بعض الأمل لأن يكون هنالك بعض الأمل في أن يكون هنالك بعض الأمل".
في زمن كثرت فيه كتابات الشتات والمنفى، يقدم المدهون نصاً يقف على الحافة، لا يقدم إجابات سهلة أو تعزية مجانية.. إنه نص يرفض النسيان، ويجبر القارئ على النظر مباشرة إلى "اليد المقطوعة"، ليس كرمز للمعاناة فقط، إنّما كدليل على أن "القصيدة" ما زالت قادرة، في ذروة الخراب، أن تكون شهادة حقيقية وصادقة.

 

0 تعليق