علي عيد
الصحافة، هذه المهنة القاسية والماتعة في آن واحد، نعايش فيها طرائف، ونتعرض لمواقف صعبة ومحرجة، نتعلم منها، أو تبقى طرائف في الذاكرة، أو تضع حدًا للحياة المهنية في بعض احتمالاتها.
ذات يوم، نحو عام 2000، في بدايات حياتي المهنية، وكنت محررًا في مجلة “الحوادث” اللبنانية، التي تُدار من لندن، أتيحت لي مع أحد الزملاء فرصة إجراء حوار مع نائب رئيس الجمهورية السوري، الراحل محمد زهير مشارقة، لكنه طلب قائمة بالأسئلة قبل اللقاء، وتم الأمر بالفعل، وتبين أنه يريد الإجابة على مهل دون مقابلة فيزيائية، فأخبرنا مكتبه بذلك على أن يتم التقاط الصور الشخصية في وقت آخر.
بعد أيام، وفي يوم جمعة صيفي، كنت وصديقي مدعوين إلى يوم شواء في ريف القنيطرة، وإذ بمكتب مشارقة يتصل طالبًا حضورنا خلال ساعة فقط لالتقاط الصور، وكنت أرتدي بنطالًا وقميصًا “نصف كم” مناسبين ليوم عطلة، والمسافة إلى مكتب نائب الرئيس في المزة فيلات شرقية بدمشق تتطلب قرابة الساعة، فما الحل لإصلاح الحال؟
زميلي الذي يرافقني في الدعوة وكذلك في إجراء الحوار، اعتاد أن يضع في سيارته بدلة رسمية “احتياط” لمثل هذه المواقف، فقلت له نتقاسم البدلة، أنت تأخذ “الجاكيت والبنطال” وكان مقاسمهما الكبير يستوعب اثنين من مقاسي، وأنا آخذ ربطة العنق، فوافق.
وصلنا في الوقت المحدد، قادمَين من مسافة تقارب 50 كيلومترًا نصفها طرقات ريفية غير مخدّمة، ولم يبدِ نائب الرئيس انزعاجًا، وذهبت الصور إلى لندن مباشرة، وجرى النشر، دون أن تمرّ برئيس التحرير ومالك المجلة، الراحل ملحم كرم، فغضب عندما شاهدها أي غضب، واتصل بمكتبنا بدمشق قائلًا، “أين الصحفي نص كم”، ثم أعطاني درسًا في الاحتياطات دون أن يقتنع بظرف التصوير الخاص، وبأنني لا أملك سيارة بالأساس لأضع بدلة الاحتياط، ومذ ذاك، صار اسمي عند ملحم كرم “علي نص كم”، وتعلمت درسًا مهمًّا يقتضي أن أحتفظ بلباس رسمي لمقابلة كبار المسؤولين، وهو ما اعتادته الصحافة في تلك الفترة.
في مناسبة أخرى، أعقبت تاريخ المناسبة الأولى بنحو عام، كنت أجري مقابلة مع وزير الإعلام المفوه، عدنان عمران، وهو دبلوماسي محنّك، عمل أمينًا عامًا مساعدًا في الجامعة العربية، وله صولاته في السياسة والفن والأدب وعشق النساء، وتلك قصة أخرى.
حضرت بكامل عدّتي، الورق والقلم لتدوين الملاحظات، ورقة الأسئلة، وآلة تسجيل الصوت (Recorder)، أما المصور فمتوفر بالضرورة.
تأكدت من آلة التسجيل قبل البدء، فهي تعمل، ثم تأكدت بعد دورانها مستغلًا انشغاله باتصال هاتفي تخلل المقابلة، ويبدو أنني ارتكبت خطأ لا أعرفه، فكانت الآلة تدور دون تسجيل الصوت، حتى بعد أن قلبت الشريط (Cassette Tape) على الوجه الآخر، فالرجل معروف عنه أنه يستطرد في الكلام.
كنت قد دونت ما استطعت وراءه، كعادتي، واستخدمت “شيفرات” تخصّني وأفهمها كي ألحق به، لكن جل ما قاله ليس على الورق.
بعد انتهاء المقابلة، أردت التأكد من تسجيل الحوار، فوجدت أنني أمام شريط صامت إلا من بضع دقائق كانت في البداية، فشعرت بالرعب، ولم أخبر أحدًا بذلك خشية العواقب.
الحيلة التي استخدمتها هي أنني أكاد أكون حفظت ما قاله الرجل، واستعنت بما دونته على الورق، وكان 18 صفحة من قياس “4A”، ما الحل إذًا؟
شرعت بإعادة كتابة ما في ذاكرتي، ومطابقته مع المدوّن، ثم ادّعيت في اتصال مع مدير مكتبه بأنني قمت بالصياغة وأريد أن أرسل النص عبر “الفاكس”، لكيلا نخرج بما لا يتوافق مع ما قاله الوزير، وحصل الأمر، ثم جاءني ثناء على دقة التفريغ والصياغة، مع موافقة على النشر على النسخة المرسلة.
تعلمت من تجربة المسجل الفارغ أن عليك كصحفي أن تضع في اعتبارك الخطة ألف، والخطة باء، وربما أكثر من ذلك، فقد تتوقف حياتك المهنية عند تجربة واحدة مخزية، تخيلوا لو أنني لم أستطع استعادة ما قاله الوزير المسؤول عن قطاع الإعلام في بلد مثل سوريا، إذ أسهل شيء يقوم به مسؤول من هذا المستوى أن يمنعك من ممارسة المهنة، هذا غير أنها ستظل وصمة في حياتك.
منذ تلك التجربة وأنا أتأكد مرات من أدواتي، ومن تسجيل حواراتي في أثناء وبعد المقابلة، كما أضع ما استطعت اللحاق به من ملاحظات وأدون ما أسمعه بدقة، وأتأكد من تحضيري المسبق، ومن راحتي الذهنية والجسدية، لكي أبقى متيقظًا وحاضرًا لأي طارئ.. وللحديث بقية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
0 تعليق