Published On 27/9/202527/9/2025
|آخر تحديث: 13:19 (توقيت مكة)آخر تحديث: 13:19 (توقيت مكة)
تعد رواية "في بيت آن فرانك" الصادرة بغلافها الأنيق وعنوانها الجذاب عن دار المتوسط بإيطاليا تجربة إنسانية وروائية وأدبية مميزة قلّما تحدث ونادرا ما تتكرر. ولأن مها حسن، التي أسميها الكاتبة المجنونة إبداعا، بارعة في اصطياد الفرص التي تمنحها حق الجنون الروائي، حولت تجربتها الشخصية في الإقامة بمنزل آن فرانك إلى رواية. لا لتؤرخ حياة الصغيرة آن فرانك والتي قد يعرفها الكثير ويعرف قصتها المأساوية وموتها السريع، لكن لتقول لنا إن الإبداع يخلق، يبعث من بين الأموات، لا بمعجزات إلهية، ولكن بقوة الفكر والقلم.
في هذه الرواية تظهر لنا مها حسن بثوب جديد، تترك وعيها ونضجها وثوريتها وغضبها المتجذر من الرجال ومن السلطة ومن الحروب، وتتحول إلى فتاة صغيرة تلهو على الورق مع صديقتها "آن فرانك" التي أحكم الموت قبضته عليها وحبسها في قمقم الطفولة أبدا.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listفتأتي حسن بعد أكثر من سبعين سنة لتحرر آن فرانك من موتها، لتلدها من رحم القلم ومخاض الكلمة، تعجن طينتها وتنفخ فيها نسمة الحياة. تشكلها كما تخيلت وأحست عند مكوثها في بيت آل فرانك في أمستردام. أوَ ليست الكتابة خلقا؟

سيرة غيرية بتقنية السيرة الذاتية
تظهر مها في روايتها "في بيت آن فرانك" بشخصيتها الحقيقية، باسمها وقلقها المفرط وعبثيتها، إذ تجربة المكوث في بيت آن فرانك والكتابة عنها، عن التجربة بحد ذاتها وعن آن، وعنه.. أي المنزل، أعمق من أن تنسب لشخصية روائية من بنات أفكار الكاتبة.
فآن فرانك حقيقة لا يمكن مجابهتها والحديث عنها والخوض في تفاصيلها الإنسانية المعقدة باللجوء إلى الخيال. هنا فقط، نزعت مها حسن رداء الكاتبة وألقت بنفسها في لجج الرواية لتتحد مع آن الحقيقة، لا آن الرواية.
إعلان
وهنا تكون "في بيت آن فرانك" قد تخطت مستوى الإبداع والتقنيات الروائية المعتادة، إذ هي مواجهة "مسالمة" بين مها حسن السورية الهاربة من بطش الحرب ضد الأقليات، وآن فرانك التي لا تختلف كثيرا عن مها. كلتاهما هربتا، من سلطة الأسد هنا، ومن النازية هناك، من البطش ضد الأكراد هنا، ومن قتل اليهود هناك.
مها عاشت مغتربة في فرنسا، وآن عاشت في هولندا بعيدا عن وطنها. مها كانت أكثر حظا ولم تمت، وآن ماتت.. فقررت مها إحياءها.. هكذا تستوي الصديقتان. مها في روايتها كأنها تلقت نداء آن فرانك من غياهبها، تلقت رسالتها من بئرها الشاحب، الموحش، البارد والمظلم، هناك حيث الموت يكبلها. تلقت النداء وأحيتها بالقلم والحبر.
يمكننا القول إن رواية "في بيت آن فرانك" قد تكون التجربة الأولى عربيا التي تجمع بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية الحقيقية وشبه المتخيلة لشخصية قدمها التأريخ كطفلة راحت ضحية المرض والحرب من دون النبش في دواخلها كإنسانة، والأهم ككاتبة.
لذلك فإن مها حسن ابتكرت أسلوبا روائيا جديدا جمع بين عناصر شائكة في الكتابة، وهي السيرة الذاتية ورصد التجربة الشخصية روائيا، إحياء شخصية من التأريخ وتوظيف الخيال لرأب الصدع في المعلومات المتداولة بشأن تلك الشخصية والتي هي متواضعة جدا في كَمها.
صداقة حذرة بين مها حسن وآن فرانك
تطرح الرواية العديد من القضايا الإنسانية والوجودية والسياسية، لا لتتهم، بل لتدعونا جميعا لنقرأ الأمس غير البعيد ونتعلم منه. تتغير الأوجه، والأمكنة والأزمنة، يتغير الطغاة والمجرمون الذين يلعبون بعدادات حيواتنا من دون التفكير للحظة بهذا الكائن الذي يقتلون. الأسد، هيتلر، الحرب السورية، الحرب العالمية الثانية، الأكراد، اليهود… دوامة لا تكف عن الدوران.
تبدأ الرواية بتلقي مها حسن الكاتبة دعوة للمكوث في بيت آن فرانك في أمستردام في مشروع يدعو الكتّاب لزيارة بيت كاتبة لم تكن الحياة معها كريمة بمنحها متسعا من الوقت لتُدلي بدلوها الأدبي باستثناء مذكراتها التي ترجمت للغات عدة.
توافق مها بعد تردد على المشروع وتبقى في المنزل لمدة عام كامل لتنشأ صداقة حذرة في البداية بين جسد حي وآخر غائب، بين كاتبة ما تزال تكتب وأخرى بتر الموت قلمها. بين سورية آتية من عالم يكاد يكون الأبعد عن صاحبة البيت. دينان مختلفان، عقيدتان لا تتقاطعان إلا بعشق الكتابة، أزمنة تتباعد، وألسن تتنافر. كاتبتان فرقهما الزمن، وجمعتها شريعة الحبر في أرض تعلو بها شريعة الغاب.
الصداقة الحذرة تتحول تدريجيا لعلاقة مفهومة بحدود مرسومة. تفهم آن فرانك أن ظهورها المفاجئ لمها حسن في الليل يقلق الضيفة وقد يجبرها رعبا على الرحيل عن هذا البيت المسكون بروح المراهقة المغدورة.
ومها من جهتها تقدر أنها ضيفة، وأن لآن الحق في المكان كونه بيتها.. فتقسم المنزل حسب حاجة كل منهما. الحمام لمها كونها إنسانة، وغرفة نوم بعيدة عن غرفة نوم آن احتراما لخصوصية كل منهما.. أما غرفة المعيشة فهي مكان مشترك بينهما.
مها حسن روائية "اللامألوف"
من قرأ لمها حسن يعلم مدى جنونها على الورق. هي كاتبة تستخلص ثفل تجاربها الإنسانية من قعر فنجان حياتها، تبلورها، تنخرط في أوجاعها، تلقي بنفسها في أمواج الكلمات، تزنر نفسها بالحكاية، بأبطالها المخذولين، تحاكي رؤوسهم المهزومة وظهورهم المحنية، تشكلهم * تماثيل مصدعة بلا أوجه، تستنطقهم في محاكمات روائية.. هي القاضي والجلاد، تبرئ تلك الشخصية، وتحاكم أخرى، وتبقى هي عالقة بين قاض يشاغبه ضميره وقلمها المتمرد حتى عليها.
إعلان
قضايا مها حسن عادية وربما مطروحة عشرات بل مئات المرات في روايات وقصص قصيرة وكتب سياسية. ما يميزها ليس الموضوع، بل طرق القص وتقنيات السرد، فكل رواية من رواياتها تأتيك بنكهة مختلفة، عبث جديد، جنون غير مطروق. كأنها تخلع عنها كل ما يقيدها وتدخل في محبسة أفكارها خاشعة للكلمة، فالكتابة لحسن هي مسيرة متأنية، صلاة صادقة، رحلة شاقة لا تبدأ ولا تنتهي.
مها حسن أخذت من "ديوجين" مصباحه الذي أفنى حياته ينقب به عن الإنسان، وأخذت من "سيزيف" صخرة أوجاعه.. لكنهما (ديوجين وسيزيف) خرافة صدقناها، ومها حسن حقيقة كذبها كثر. لكنها كانت حقيقة… وستبقى.
* تماثيل مصدعة هو عنوان رواية للأديبة اللبنانية مي منسى صادرة عن دار الساقي في العام 2014.
0 تعليق